مجمع الشيخ البكري.. صفحة مجهولة من تاريخ العربية (3) شاطر ومشطور وبينهما طازج... ومدرة... وطنف... ألفاظ معربة لم يقبل بها العرب!
من أمثلة ما عربه مجمع الشيخ البكري، ما أقره في الرابع من فبراير (شباط) 1893م حين عقد المجمع جلسته السادسة (قبل الأخيرة) وأقر تعريب عشرة ألفاظ تلاها رئيسه «محمد توفيق البكري» وهي: مرحي بدلاً من «برافو»، وبرحى «لمن أخطأ الهدف»، ومدرة بدلاً من «أفوكاتو»، والمسرة بدلاً من «التليفون»، وعم صباحاً بدلاً من «بون جور»، وعم مساءً بدلاً من «بون سوار»، والبهو بدلاً من «الصالون»، والقفاز بدلاً من «الجوانتي»، والنمرة بدلاً من «نمرو»، والوشاح بدلاً من «الكردون».وفي الجلسة السابعة والأخيرة 17 من فبراير (شباط) 1893م قدم الأديب «محمد المويلحي» تعريباً لعشرة ألفاظ أخرى هي: الطنف ـ البلكون، الحراقة ـ مركب الطوربيد، بطاقة الزيارة = فيزيت كارد، المرب ـ الكلوب (النادي)، الحذاقة ـ شهادة الدراسة كالبكالوريا والليسانس، العاطف والمعطف ـ البالطو، حصب الطريق بالحصباء ـ وضع المكدام في الطريق، الشرطي والجلواز ـ أحد رجال البوليس، المشجب ـ الشماعة.
منهج التعريبهذه الألفاظ المعربة تستدعي أكثر من معنى، فهي ـ أولاً ـ تجعلنا نرى إلى أي مدى كانت هيمنة المفردات الأجنبية على لغة التخاطب اليومية في بلاد العرب، وهي الهيمنة التي ولدت فكرة المجمع ـ في الأساس ـ للتخلص منها، ولو قارنا بين ما كان وما نحن عليه الآن لأدركنا أن ما بذله اللغويون طيلة أكثر من قرن لم يذهب سدى، إذ اختفت ألفاظ مثل «كلوب، وأفوكاتو» بينما تراجع استخدام ألفاظ أخرى. ثانياً: تأكيداً لطبيعة اللغة ككيان حي يستجيب لظروف الزمان والمكان، فإن التطور فرض في بعض الأحيان طريقاً غير طريق اللفظ الأجنبي وطريق التعريب المجمعي معاً، فنحن اليوم لا نقول «حصب الطريق» كما لا نقول «وضع المكدام» وكلاهما مقابل ثقيل للفظ «الرصف» الذي خف على الألسنة وشاع في الاستعمال.وأخيراً نرى أن الألفاظ المعربة، وهي عشرون لفظاً، ظل معظمها مجرد مقترحات، ولم يدخل دائرة الاستعمال إلا ستة ألفاظ منها، هي: القفاز، البهو، الوشاح، الشرطي، النمرة، المعطف. ولعل سبب فشل الجزء الأكبر منها هو أن اقتراحها راعى ـ فحسب ـ موافقة جذر اللفظ واشتقاقه للمعنى المراد التعبير عنه، ولم يلتفت إلى خفة اللفظ وشيوعه وسهولة جريانه على الألسنة، ولهذا ماتت معظم مقترحات مجمعنا الأول، وعاشت بدلاً منها ألفاظ تمتعت بما افتقرت المقترحات المجمعية إليه، مثل الشرفة، وهو لفظ تداولته الصحف والأوراق الرسمية فعاش بينما مات لفظ «الطنف» غير مأسوف عليه. ومن هذا القبيل قلنا النادي ولم نقل المرب، كما قلنا: المحامي والهاتف وصباح الخير ومساء الخير، ولم نقل: المدرة والمسرة وعم صباحاً وعم مساء. ذلك أن جريان الألفاظ على ألسنة الناس لا يعتمد ـ فحسب ـ على قواعد اللغة، بل يعتمد ـ أيضاً ـ على الحوادث التي تضيف إلى اللفظ معنى جديداً أو تسلبه بعض معانيه، وخذ ـ مثلاً ـ لفظ «القطار» الذي كان يعني «أن تشد الإبل على نسقٍ واحداً إثر واحد» أما اليوم فإن المعنى الذي يستدعيه هذا اللفظ هو وسيلة المواصلات المعروفة والتي تتكون من عدة عربات «شدت على نسقٍ واحدة إثر واحدة».بل إن اللفظ ـ أحياناً ـ لا تربطه بمدلوله أية رابطة من ناحية الجذر ولا الاشتقاق، مثل الحلوى المعروفة باسم «المهلبية» والتي تصنع من السكر والنشا والحليب، وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى «المهلب بن أبي صفرة» أحد فرسان العرب وساداتهم في العصر الأموي، الذي كان مغرماً بهذا اللون من الحلوى. هذه الطريقة في الربط بين اللفظ ودلالته معروفة في اللغات كلها، مثلاً اللفظ الإنكليزي «ساندويتش» أطلق أساساً على شرائح اللحم إذا لفت في الخبز، ثم توسعوا في استخدامه ليدل على أي إدام وضع داخل الخبز، وأصله أن أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني ـ ويدعى الإيرل «ساندويتش» ـ كان يحمل لفافات الخبز واللحم معه ليتناولها إذا أحس بالجوع خارج منزله، ولهذا سموه «وجبة ساندويتش» ثم حذفوا «وجبة» تخفيفاً. وكان على من حاول تعريب هذا اللفظ أن يعي حقيقة أصله ولا يرهق نفسه في اشتقاق ما يدل عليه، إذ هو ـ في الأصل ـ ليس لفظاً مشتقاً، كان بوسعه استعمال اللفظ كما هو، وهو منهج عرفه العرب في جاهليتهم وإسلامهم، إذ استعملوا ألفاظاً أعجمية عربت بضمها إلى معجمهم، منها: «القاموس» و»فلسفة» والكثير من ألفاظ الطعام والعلم والصناعة. لكن أحدهم اقترح ذات يوم تعريب «ساندويتش» إلى «شاطر ومشطور وبينهما طازج»، وهو اقتراح ظل حبيساً في ذهن من اقترحه، لم يجاوزه إلى عقل آخر يقتنع بجدواه!خيار يفرضه الواقعإذا كانت عملية التعريب قد سارت قدماً فإن هذا يرجع إلى قدرة القائمين عليها على ضبط أصولها وإحكام قواعدها، ومن أهمها أنه لا عيب ـ إطلاقاً ـ في استخدام ألفاظ التقنية كما هي في أصولها الأجنبية، مع اعتبارها جزءاً من المعجم العربي، وهو خيار يفرضه الواقع فرضا، فمن جهة تكشف الدراسات أن المصطلحات العلمية والتقنية باتت تستخدم في معظم لغات العالم بالصياغة نفسها، ومن ناحية أخرى، تشير بعض التقديرات إلى أن هناك ربع المليون مصطلح غير مدون في المعاجم العربية سواء العامة أم المتخصصة، وتقول إحدى الدراسات إن هناك 18 ألف مصطلح أجنبي تفد سنوياً من الدول المتقدمة إلى الدول النامية، وهو سيل تعجز أي جهود مجمعية عن مواجهته، إذ يجب نحت خمسين لفظاً يومياً، وهو معدل يستحيل الاقتراب منه، ناهيك عن الوصول إليه، وقد رأينا ـ حالاً ـ مصير الألفاظ العشرين التي سعى مجمع الشيخ البكري إلى تعريبها، وكيف فشل ثلثاها ـ أو أكثر ـ في إصابة الهدف، فضلاً عن أن تعريب اللفظ بضمه ـ كما هو ـ منهج عربي أصيل، نجد آثاره في شعر العرب ونثرهم، فلماذا نهجره على أصالته ويسره، ونركب سبيلاً صعباً يضعف قدرة لغتنا على النمو، ويكبل خطوتها عن مواكبة العصر؟