قبل ستين سنة أعلن الإسرائيليون قيام دولتهم، وتمكن جيشهم المدرب والمسلح بأحدث الأسلحة من إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية التي دخلت فلسطين للدفاع عن أهلها ومساعدتهم وانتزاع حقوقهم المغتصبة، وكي لا تنسب الهزيمة إلى الزعماء العرب في ذلك الوقت أو إلى قوادنا وجنودنا، كدّ الأذكياء من كتابنا واجتهدوا لوصف ما حدث ومنحه الاسم اللائق به، وقد نجحوا في النهاية في استبدال النكبة بالهزيمة، وصار من ثم عام النكبة هو الاسم الرسمي لعام 1948 في أوراقنا وأدبنا.

Ad

والنكبة كما يعرف الجميع تختلف عن الهزيمة التي تجبرنا على البحث عن أسبابها، ومحاكمة المسؤولين عنها، وتغيير الظروف التي أدت إليها، بينما النكبة اسم فضفاض لأحداث وكوارث طبيعية في الأغلب تنجم عن الأعاصير والفياضانات والبراكين والزلازل وغيرها. وقد اتسع أفق الأكاذيب منذ ذلك الوقت فظهر بعد عام النكبة عام النكسة وغيره من الأعوام التي نشير بها إلى محننا وهزائمنا.

في الطفولة والصبا شحنتنا الكتب الدراسية بآكاذيب لا حصر لها عن الأسباب التي أدت إلى نكبة 1948 وقد ظلت الخيانة «أكثر الكلمات شيوعا وتداولا في بلادنا» هي السبب الأساسي للهزيمة...» خيانة بعض زعمائنا وتحالفهم سرا مع الإسرائيليين- خيانة الملك فاروق وحاشيته ودوره في استيراد الأسلحة الفاسدة- خيانة بعض الجيوش العربية ورفضها القيام بدورها في الحرب بالإضافة إلى خيانات كبيرة وصغيرة أخرى» ومن المثير للدهشة أن الكتب المدرسية ظلت تلح على دور الأسلحة الفاسدة حتى بعد أن أصدرت محكمة الجنايات بعد قيام ثورة 1952 حكما ببراءة كبار الضباط وتجار السلاح الذين أحيلوا إليها بتهمة توريد هذه الأسلحة إلى الجيش.

وقد ظلت الأسباب الخفية للهزيمة متوارية ومسكوتا عنها لسنوات طويلة، ثم بدأت في الأعوام الأخيرة تتشكل وتسفر عن المسار الحقيقي للأحداث بعد ظهور مذكرات القادة والسياسيين الذين عاصروا الحرب بالإضافة الى كتابات المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين انشغلوا بإعادة قراءة المناطق الغامضة من تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي انطلاقا من شعورهم بأن الكثير من التواريخ التي كتبها إسرائيليون يغلب عليها الانحياز أو المبالغة والسعي إلى تجميل صورة إسرائيل وتأكيد ضعفها لتبدو الحرب صراعا بين الوحش العربي والحمل الاسرائيلي الوديع.

ومن محضر الجلسة السرية لمجلس الشيوخ المصري التي عقدت قبل الحرب بأربعة أيام، ومن مذكرات رئيس المجلس د. محمد حسين هيكل باشا يستوقفنا الانقسام والتخبط والجهل التام بقدرات الإسرائيليين وقوتهم، ومن ثم القرارات العشوائية التي اتخذت وكانت من أسباب الهزيمة. فبينما يعلن إسماعيل صدقي باشا أن الجيش المصري غير مستعد للحرب وتنقصه الذخيرة وعربات نقل الجنود وسلاح الدبابات والطيران... يؤكد وزير الحربية «حيدر باشا» أمام مجلس الوزراء قدرة هذا الجيش البائس على دخول تل أبيب في خمسة عشر يوما من دون أي مساعدة من الجيوش العربية الأخرى!!

وعن التحالف العربي الذي كان قائما في ذلك الوقت يتحدث المؤرخون الإسرائيليون الجدد قائلين «كان واحدا من أكثر التحالفات انقساما واهتراء في تاريخ الحروب... فالرئيس السوري يرسل في صباح اليوم المحدد لدخول الجيوش العربية للأراضي الفلسطينية رسالة إلى ملك الأردن يقترح فيها عدم دخول الحرب والاكتفاء بإمداد الفلسطينيين بالمال والسلاح.

وعن ميزان القوى يتحدث هؤلاء المؤرخون قائلين «في منتصف مايو 1948 كان عدد الجنود العرب النظاميين وغير النظاميين أقل من 25 ألف فرد بينما كان عدد أفراد جيش الدفاع الإسرائيلي يزيد على 25 ألفا... وفي ديسمبر 48 تضاعف العدد وبلغ 96 ألف جندي. هذه المعلومات التي توافرت في الأعوام الأخيرة تؤكد لنا أن الضعف والتخبط كانا يقودان الجانب العربي في ذلك الوقت إلى الهزيمة أو النكبة التي مازلنا ندور في متاهاتها. هل تحررنا منهما؟ أشك في ذلك فالتخبط والانقسام والعمى المعرفي والعشوائية صارت ملامح للوجه العربي، وما يحدث في العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية يرسخ الخسائر، ويشير إلى أننا بدلا من التخطيط للخروج من متاهة النكبة والتسلح بأدوات المطالبة بالحقوق نفضل التشظي والطائفية وإعلان الحرب على أنفسنا.

* كاتب وشاعر مصري