-1-
لعلي لا أغالي إذا قلت، إن الديمقراطية العراقية، هي من أغلى الديمقراطيات في التاريخ تكلفةً في الحجر والبشر والمال، إن لم تكن أغلاها قطعاً، في العصر الحديث.فأوروبا- كل بلد على حدة- لم تدفع ثمن الحرية والديمقراطية الغالي، الذي دفعه العراق. كما لا يوجد بلد عربي- عدا الجزائر- دفع الثمن الغالي للحرية والديمقراطية، الذي دفعه العراق. لذا، فالحرية والديمقراطية غاليتان وعزيزتان على نفوس العراقيين، وهم لن يتخلوا عنهما، أو يكفروا بهما، في يوم من الأيام. وإن حاولوا أن يفعلوا ذلك، فدماء أبنائهم، وآبائهم ستذكرهم بها. ومياه دجلة والفرات، التي شهدت على كل هذه التضحيات ستذكرهم بها. ونخيل العراق الباسق، الذي ارتوى بدماء الفداء للحرية والديمقراطية سيذكرهم بها. لذا، فمن غير المستغرب أو المستهجن، أن نرى إصرار العراقيين والعراقيات من كل الأطياف، ومن مختلف الأعمار، على تحديهم، وحرصهم على ممارسة حقهم الانتخابي، سواء في الانتخابات التشريعية الماضية 2005، أو في التصويت على الدستور للعراق الجديد، أو في انتخاب مجالس المحافظات التي جرت قبل أيام.-2-الشكر كل الشكر، موصولٌ لإدارة الرئيس بوش، التي دفعت مئات المليارات من الدولارات، وآلاف الضحايا، من أجل تحرير العراق من العبودية والدكتاتورية، كما دفعت في الحرب الثانية وبعدها (مشروع مارشال) من أجل تحرير أوروبا من الدكتاتورية النازية والفاشية. وهذا الشكر رغم الأخطاء الإدارية والعسكرية، التي صاحبت حملة «حرية العراق»، وهي أخطاء قاتلة، ولكنها متوقعة لدولة تخوض لأول مرة تجربة من هذا القبيل، في النصف الثاني من القرن العشرين. فقد كانت تجربتها السابقة في اليابان لتحريرها من العسكرتاريا، في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، لا تشبه التجربة العراقية. وكانت ظروفها ومناخها وقواعدها وسكانها، يختلفون كل الاختلاف عما كان قائماً في العراق. ولكن، لو كانت إيران أو تركيا (وارثة الإمبراطورية العثمانية) هي التي فعلت ما فعلته أميركا في العراق، وارتكبت الأخطاء القاتلة نفسها، لما كانت كراهيتنا لها، تصل إلى الحد الذي وصلت فيها كراهية العرب لأميركا. وهي- للعلم- كراهية كانت قائمة منذ 1967، عندما بدأت أميركا في عهد الرئيس ليندون جونسون، تتدخل بشكل مباشر ومكشوف لمصلحة إسرائيل، ضد العرب والفلسطينيين.-3-لا ننكر أن الديمقراطية في العالم العربي وفي العراق كذلك، في مأزق كبير. وهذا المأزق يتمثل في استفادة الأصولية الدينية/السياسية من محاولات العالم العربي- بضغط كبير من الغرب خصوصاً من أميركا- تطبيق بعض آليات الديمقراطية، وهي شفافية الانتخابات وابتعادها عن التزوير، ومحاولة الإشراف ومراقبة الانتخابات، التي تجري في أنحاء متفرقة من العالم العربي، من قبل لجان من الاتحاد الأوروبي، وشخصيات مهمة من أميركا كالرئيس السابق جيمي كارتر، الذي شهد الانتخابات الفلسطينية 2006.ولكن هذه الآلية (الانتخابات) الديمقراطية، تكاد تصبح وبالاً على العالم العربي، لأنها في آخر المطاف تُمكِّن الأحزاب الأصولية/الدينية/السياسية، من اكتساح الانتخابات، والفوز فيها، وبالتالي الفوز بكرسي الحكم. وهذا ما حدث في الجزائر، ومصر، والعراق، وفلسطين. كما حدث في الانتخابات البلدية السعودية عام 2005. ولذا، لجأت السلطات السعودية، إلى تعيين أعضاء مجلس الشورى عام 2005 ، لأنها لو تركت الخيار للشارع السعودي، فسيأتي جلُّ أعضاء المجلس من الأصوليين الدينيين، كما تمَّ في الانتخابات البلدية تماماً. -4-تطرّق إلى مأزق الديمقراطية العربية هذا، الكاتب الأميركي جويل برينكلي الحاصل على جائزة «بوليتزر»، وأستاذ الصحافة في جامعة ستانفورد الشهيرة، حين تساءل عن تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط، فكان جوابه، بأن التاريخ الحديث للممارسة الديمقراطية في الشرق الأوسط ليس مشجعاً، نتيجة لسيطرة الأحزاب الأصولية/الدينية/السياسية على الشارع العربي، خصوصا في الجزائر، ومصر، وفلسطين، والعراق، وإيران، ودول الخليج العربي.ويلاحظ برينكلي أيضاً، من خلال عمله في الصحافة، وزياراته المتعددة لمنطقة الشرق الأوسط، أن هناك مأزقاً آخر للديمقراطية الشرق الأوسطية. فالأصوليون الإسلاميون ليسوا وحدهم من يخشى الغرب من تسلمهم زمام الحكم، ولكن هناك من الديمقراطيين الليبراليين، الذين يتميزون بالتحيز العنصري، وما هو أسوأ من ذلك.ويتساءل برينكلي:- هل نريد أن يحكم هؤلاء الناس؟ وهل ترغب إدارة أوباما بالفعل، في تعزيز الديمقراطية بمنطقة الشرق الأوسط؟ويجيب برينكلي بقوله:- في معظم الحسابات، لن يقدم أوباما على ارتكاب نفس الأخطاء التي ارتكبها بوش. وبالنسبة لإدارة بوش، يعني تعزيز الديمقراطية، تشجيع وتقوية الدول على إجراء الانتخابات. وهذا ما حدث في مصر، وفلسطين. ولكن الديمقراطية، لا يمكن أن تزدهر في الدول التي لا تمتلك طبقة وسطى، أو تأريخاً من النقاش السياسي الحر. وفي هذه الأماكن، يمثل المسجد أو الكنيسة ملجأً، يمكن الوصول إليه في معظم الأحيان، وتلقّي أفكار منظمة. وبسبب عدم قدرة الناس على معارضة النظام بشكل علني، تصبح أصوات علماء الدين، سواء كانوا متشددين أم معتدلين، أهم الأصوات السياسية.وينتهي برينكلي إلى القول: «إن خلق الديمقراطيات في منطقة الشرق الأوسط، مشروع طويل للأجيال القادمة. ولكن هذا المشروع، لن يبدأ إلا إذا اتخذنا الخطوات الأولى الآن، وهي ربط المساعدات المالية، والدعم السياسي، بخطوات الإصلاح السياسي». وهو ما يطالب به البعض في الشرق الأوسط.-5-كانت انتخابات مجالس 14 محافظة، التي تمت أخيراً في العراق، مهمة أهمية كبرى خاصة بالعراق ذاته. ومن عناصر هذه الأهمية:1- أنها أول انتخابات تجري في العراق الجديد، بعيداً عن تهديد العصابات الإرهابية، وبعيداً عن حراب الاحتلال، كما كان يقال عن الانتخابات التشريعية 2005. ولذا، فالإقبال على انتخابات مجالس المحافظات، كان كثيفاً، والإيمان بنزاهتها كان كبيراً.2- كان التنافس في هذه الانتخابات شديداً غير مشهود. وكان هناك حوالي 14400 مرشح، موزعين على 400 قائمة، يتنافسون على 440 مقعداً في مجالس المحافظات، مما أدى إلى أن تفرز الانتخابات عراقاً أكثر تمثيلاً لأبنائه على اختلاف انتماءاتهم. وهذا مظهر صحة سياسية ديمقراطية.3- اشتراك كل فئات الشعب وتكويناته المختلفة في الانتخابات بمن فيهم السُنَّة، الذين كانوا يُحجمون عن الاشتراك في الانتخابات الماضية. وهذا دليل صحة سياسية ديمقراطية.4- رغم هيمنة القوى الدينية على مقاعد مجالس المحافظات، فإنه رُصد صعودٌ ظاهرٌ للقوى العلمانية والمستقلة، خصوصاً في المناطق الغربية السُنيَّة والشيعية أيضاً. وظهرت الأحزاب السياسية ذات البرامج السياسية الداعية إلى القانون والنظام في هذه الانتخابات، أكثر من ظهور الطوائف الدينية ذات البرامج التقليدية المستهلكة، كما كانت عليه الحال في الانتخابات التشريعية 2005. كما أن الأحزاب الدينية الطائفية، فقدت كثيراً من شعبيتها. وهذا مظهر آخر للصحة السياسية الديمقراطية.* كاتب أردني
مقالات
الانتخابات العراقية... درس آخر في التطبيق الديمقراطي
18-02-2009