مذكرات فؤاد بطرس شارون يقتحم سراي بعبدا معلناً أول حصار إسرائيلي شامل لعاصمة عربية عوّلنا على هيئة الإنقاذ... فاشتبك بشير الجميل ووليد جنبلاط لم يعد بوسعي قبول بقاء لبنان منقاداً من الفلسطينيين والسوريين ... والبلد يحترق موفد الرئيس ريغان يستشيط غضباً وينعت الإسرائيليين بالغباء بعد اجتيازهم طريق الشام الحلقة الثالثة عشرة

نشر في 28-08-2008 | 00:00
آخر تحديث 28-08-2008 | 00:00
No Image Caption
كان 1982 عام الاستحقاقات والأحداث الكبيرة التي واجهناها بشجاعة وحزم وحكمة محاولين إنقاذ الجمهورية واللبنانيين من تداعياتها السلبية. غير أننا سعينا في الوقت نفسه إلى الاستفادة منها، قدر الإمكان، لتحويلها إلى فرصة للخروج من الدوامة التي كان يدور فيها لبنان منذ سنة 1967، إذ كان علينا التعامل مع الاجتياح الإسرائيلي على أنه احتلال مرفوض للأراضي اللبنانية، ومن ثم للعاصمة بيروت، وبالتالي يجب القيام بكل ما يلزم لمواجهته ولإحراجه أمام المحافل الدولية، ولكننا كنا، في الوقت نفسه، راغبين أيضاً في الانتهاء من حال الفوضى التي كانت تتسبب بها المقاومة الفلسطينية والتي كانت إسرائيل، من وقت لآخر، تتذرع بها لكي تضرب لبنان ومقوماته ومرافقه السياحية والاقتصادية. لم يكن من السهل علينا القيام بهذا الدور الأشبه بالسير على الحبل بالنظر إلى التركيبة الديموغرافية اللبنانية المتعاطفة بجزء كبير منها مع الفلسطينيين بينما يضيق صدر الجزء الآخر بهم ويريد خروجهم من لبنان.

الاجتياح الإسرائيلي للبنان

اعتباراً من النصف الثاني من كانون الثاني (يناير) 1982، بدأت ترد إلينا أخبار وشائعات مقرونة ببعض المعلومات عن عزم إسرائيل على شن اعتداء عسكري واسع النطاق على لبنان وربما على سوريا بهدف استئصال المقاومة الفلسطينية. وفي ظل ورود هذه المعلومات، استدعى الرئيس سركيس السفير الأميركي روبرت ديلون واجتمع به للاستفسار عن حقيقة هذه الشائعات ومعرفة موقف واشنطن منها، ثم استدعيته بدوري إلى قصر بسترس للغرض نفسه. فأبلغنا أن الموقف الرسمي لبلاده هو رفض هذا المخطط والسعي لإحباطه والتحذير منه لأنه محرج للولايات المتحدة ولا يؤدي إلى المبتغى بحسب رأيها.

وبنتيجة هذه الاتصالات، وعدني السفير ديلون بأن يحذر بشير الجميل في اجتماع ليلي سيعقده معه مساء الثلاثين من كانون الثاني (يناير)، من المشاركة بأي عمل إذا أقدمت إسرائيل على تحرك عسكري، وأن يطلب منه الوقوف وراء السلطة الحكومية اللبنانية في كل ما يمكن أن تطلبه أو تقدم عليه من تحركات.

كان العالم بأسره ينتظر خبر اجتياز الجيش الإسرائيلي للحدود اللبنانية شمالاً، ولم تبدأ التساؤلات عن مدى الاجتياح وأهدافه إلا بعدما تخطت القوات الغازية خط نهر القاسمية، في ظل توقعات وتحليلات ومعلومات متناقضة حول النتائج التي سوف تترتب عليه. وفيما كانت المعارك متواصلة، شرعت في المواجهة الدبلوماسية المفتوحة مع إسرائيل المدعومة بقوة وبشكل سافر من الولايات المتحدة الأميركية.

لم تكترث الدولة العبرية للقرار 508 الصادر عن مجلس الأمن في الخامس من حزيران (يونيو) والقاضي بحث «جميع أطراف النزاع على الوقف الفوري في آن لكل النشاطات العسكرية داخل لبنان وعبر الحدود اللبنانية-الإسرائيلية في موعد لا يتعدى الساعة السادسة بالتوقيت المحلي من يوم الأحد 6 حزيران». بل واصلت تقدمها العسكري شمالاً وهجومها الدبلوماسي في نيويورك حيث دعا سفير إسرائيل، في بيان طويل حاول فيه تأخير التصويت أو تعطيله، إلى «تحميل لبنان مسؤولية الأعمال الفلسطينية لأن لبنان لا يمنع ما هو موجه منها ضد إسرائيل، وفقد معالم السيادة، ولم يعد يمكنه حتى اتخاذ قرار داخلي ولا خارجي، ولذلك لا يمكنه الإفادة من امتيازات القوانين الدولية لأنه لا يتحمل الأعباء الناجمة عن هذه القوانين». وأتبع مجلس الأمن القرار 508 بالقرار 509، في السادس من حزيران (يونيو)، وطلب فيه من إسرائيل سحب قواتها «فوراً ومن دون شروط، إلى حدود لبنان المعترف بها دولياً».

رعاية المختارة

وبينما كنا عاجزين، نحن والأسرة الدولية، عن وقف المواجهة العسكرية التي دارت رحاها على أرضنا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لم نستسلم على الجبهة الدبلوماسية.

وقبل انعقاد مجلس الوزراء في اليوم نفسه، اجتمعت مع الرئيسين سركيس والوزان في مكتب رئيس الجمهورية. وقد أردت يومذاك أن أضع رئيس الحكومة أمام مسؤولياته، فقلت له: «حان الوقت، يا دولة الرئيس، أن يتخذ السنة في لبنان موقفاً تاريخياً: إما أن يدخل الجيش اللبناني الآن إلى المنطقة الغربية، أو ستدخل قوات بشير الجميل بعد الفراغ الذي ستشهده قريباً». على الأثر، دعا الرئيس الوزان الوزراء السنة إلى اجتماع جانبي، فيما كان رئيس الجمهورية يبدي شيئاً من العتب على الأسلوب الذي اعتمدته في حديثي مع رئيس الحكومة.

عند الساعة الأولى من فجر العاشر من حزيران (يونيو)، اتصل بي السفير الأميركي روبرت ديلون ليعلمني بأن الرئيس الأميركي رونالد ريغان اتصل شخصياً برئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغين وطلب منه وقف إطلاق النار في تمام الساعة السادسة من التوقيت العالمي أي الثامنة صباحاً بتوقيت لبنان. وطلب مني ديلون أن أتصل بالرئيس الوزان لكي ينقل إلى منظمة التحرير الفلسطينية هذا القرار.

في الصباح، وقبل اجتماعي بالرئيسين سركيس والوزان وانعقاد مجلس الوزراء في القصر الجمهوري، قلت للسفير الأميركي إن الوضع لا يطاق بالنسبة إلى اللبنانيين الذين لم يعودوا قادرين على تحمل الأعمال الحربية والغارات والقصف لأكثر من يوم أو يومين. فأجابني ديلون: «لا أعرف في الواقع الأسباب التي حملت حكومتي على استعمال حق النقض ضد مشروع القرار الإسباني في مجلس الأمن، ولكني على المستوى الشخصي أتفهم موقفكم». وطلبت إليه أن يحث حكومته على العمل في سبيل وقف إطلاق النار الذي لم يصمد طويلاً، والسماح لخمس طائرات «ميدل إيست» بمغادرة مطار بيروت، ومنع إسرائيل من اجتياح العاصمة، والطلب إلى الإسرائيليين أن يراعوا وليد جنبلاط الموجود في المختارة. وكان الوزير مروان حمادة حمل إلي هذا الطلب بشكل ملح بناء على رغبة جنبلاط. وقلت لسفير واشنطن: «سأفعل ما بوسعي لتفادي قطع العلاقات الدبلوماسية بين بلدينا، ولكن إذا اجتاحت إسرائيل بيروت سنكون عندئذ مضطرين إلى قطع العلاقات». وبدا لي يومذاك أكثر من أي وقت آخر أن السفير روبرت ديلون مناهض لإسرائيل، وقد لفتني كثيراً قوله إن سوريا كانت أكثر من متعاونة مع الولايات المتحدة.

أشرار واشنطن

بعد ذلك، اجتمعت مطولاً مع الرئيس سركيس، وتداولنا في شأن عقد قمة عربية طارئة، فأبدى الرئيس سركيس موافقته المبدئية على هذا التصور. وفيما كنا متوجهين إلى مجلس الوزراء، قال لي الرئيس الوزان: «بعد الفيتو الأميركي، ليس بإمكاني إلا أن أقطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة»، فأجبته بانفعال: «منذ 1967، لم يتعلم العرب شيئاً، ففي حينه عزلوا أنفسهم عن الغرب، هل سنرتكب اليوم الخطأ التاريخي نفسه؟ إني أرفض رفضاً باتاً قطع العلاقات مع واشنطن لأنها وحدها قادرة على توفير إمكانية لتحقيق انسحاب إسرائيلي من لبنان بعد مفاوضات طويلة وشاقة سيخوضها لبنان». فصمت الرئيس الوزان وبدا لي كأنه يفكر في ما قلته له.

عندما انعقد مجلس الوزراء، طالب الوزراء مروان حمادة ومصطفى درنيقة ونزيه البزري في بداية الجلسة قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة بسبب الفيتو الذي استعملته ضد مشروع القرار الإسباني. فتوجهت إليهم بالقول: «إن الأميركيين سيئون وأشرار وأوغاد، ألصقوا بهم ما تشاؤونه من النعوت، لكن يصدف أنني بحاجة إليهم لإخراج الإسرائيليين من لبنان. بالنسبة إليّ، إني أحذركم من الخطأ التاريخي الذي أنتم على وشك اقترافه». وهنا، تدخل الرئيس الوزان مؤيداً وجهة نظري من مسالة قطع العلاقات مع واشنطن التي كنت ألمس لأول مرة منذ ست سنوات اهتمامها البالغ والجدي بما كان يجري في لبنان. وعلى رغم المآسي التي كانت تحل بنا، اعتبرت في تلك الفترة أننا نتمتع بهامش تحرك ومناورة لا يستهان بهما، وقد يوفران لنا، إذا أحسنا التعاطي، فرصة للتخلص من الإسرائيليين والسوريين معاً. وما كان يحبطني بعض الشيء هو مواقف معظم القادة المسلمين الذين لم يكونوا قد سلّموا- بعد كل ما حل بنا- بأن مواقفهم الداعمة دون تحفظ للنشاط الفلسطيني العسكري هو ما أدى إلى وقوع أجزاء من البلاد تحت الاحتلال الإسرائيلي.

في الحادي عشر من حزيران (يونيو)، فوجئنا بقرار بوقف إطلاق النار بعدما أصبحت القوات الإسرائيلية على مشارف العاصمة، وقد حمله السفير الأميركي إلى القصر الجمهوري حيث أبلغه إلى الرئيس سركيس الذي أبدى موافقته عليه. وعندما أبلغني رئيس الجمهورية، بحضور مدير المخابرات جوني عبدو، ما دار بينه وبين السفير روبرت ديلون، لفت نظره إلى أن لبنان، على رغم اعتداء إسرائيل عليه، ليس من الوجهة القانونية في حال حرب معها لكي يضطر إلى الموافقة على اتفاق بوقف إطلاق النار بل هو متمسك باتفاقية الهدنة الموقعة في عام 1949، ويطالب بتنفيذها. وليلاً استدعيت السفير الأميركي، وقلت له: « إن لبنان متمسك باتفاقية الهدنة وبجلاء القوات الإسرائيلية عن أراضيه، وليس عليه أن يقبل أو يرفض وقف إطلاق النار وإن كان ينظر بارتياح إلى توقف القتال بين المتصارعين».

شارون يقتحم

في هذه الأثناء، دعت الكويت إلى عقد مجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية، فطلبت التأجيل لأن الموعد المحدد لم يكن يناسبنا ناهيك عن أن هذا الاجتماع كان سيبدو كأنه بديل عن القمة التي طالبنا بانعقادها للبحث في أربع مسائل: وقف إطلاق النار، وانسحاب إسرائيل، ووقف النشاطات العسكرية كلها على كامل الأراضي اللبنانية، ونشر الجيش اللبناني على كامل البقعة الجغرافية التي ستنسحب منها إسرائيل. وفي الواقع، كانت هذه المسائل لا تزال موضع بحث بيني وبين الرئيسين سركيس والوزان الذي كان لايزال عند تحفظاته، الأمر الذي تسبب في تلك الفترة بأكثر من جدال بيننا، وكانت أكثرها حدة المشادة التي حصلت بيننا في الثالث عشر من حزيران (يونيو). يومذاك قلت له: «لم يعد بإمكاني أن أقبل بأن يظل لبنان منقاداً من جانب الفلسطينيين والسوريين، ألا ترى أن البلد يحترق».

في ذلك اليوم نفسه، كان علينا أن نخشى أمراً آخر أكثر إلحاحاً، وهو دخول الجيش الإسرائيلي إلى القصر الجمهوري. يومذاك كنت إلى جانب كبار المسؤولين وأعضاء الفريق الرئاسي مجتمعين في مكتب الرئيس سركيس نتبلغ تباعاً تقدم وحدات إسرائيلية باتجاه بعبدا. فتحدثت مع السفير الأميركي روبرت ديلون بشأن هذا التقدم نحونا فأكد لي أن الإسرائيليين لن يدخلوا إلى القصر الجمهوري واعداً ببذل الجهود اللازمة لسحبهم من محيطه في أسرع وقت ممكن لكن كلمته لم تطمئنا كثيراً بالنظر إلى عدم التزام إسرائيل دائماً بما تعد به الولايات المتحدة. وفيما كنا في أوج القلق، اتصل مدعي عام جبل لبنان القاضي موريس خوام بالرئيس سركيس، وأبلغه أن وزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون دخل إلى سراي بعبدا وطلب عبر أحد ضباط قوى الأمن الداخلي مقابلته، مضيفاً أنه تمنع عن استقبال شارون. لم يكن هذا الاتصال ليطمئنا خصوصاً بعدما نشرت إسرائيل قواتها على مسافة أمتار من القصر الجمهوري على رغم وعود أميركية متكررة بسحبها.

بدخول الجيش الإسرائيلي إلى بعبدا، باتت بيروت عملياً تحت الحصار، واتخذ الاجتياح الإسرائيلي بعداً جديداً غير مسبوق. إنها المرة الأولى التي يحاصر فيها الجيش الإسرائيلي عاصمة عربية، ويضع من أجل فك حصاره شروطاً صارمة بإخراج المقاتلين الفلسطينيين والسوريين كلهم منها. وفي ظل هذه الأجواء المتوترة والخطيرة، وصل إلى لبنان آتياً عن طريق البر من دمشق، الموفد الأميركي فيليب حبيب برفقة مساعده موريس درايبر، في عصر الرابع عشر من حزيران (يونيو).

صلح إسرائيل

سبق وصول فيليب حبيب، عند الظهر، تشكيل هيئة الإنقاذ الوطني بعدما غضضنا الطرف عن فكرة تشكيل حكومة فاعليات وطنية مصغرة تضم القيادات المتحاربة. وتألفت الهيئة من الرئيسين سركيس والوزان، ومني، ومن النائب نصري المعلوف وقائد القوات اللبنانية بشير الجميل ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس حركة أمل نبيه بري. وكنا نعول على هيئة الإنقاذ الوطني لكي نوحد اللبنانيين حول مواجهة تداعيات الاجتياح الإسرائيلي للبنان بغية تفادي مخاطر التفتت في ظل الانقسام الحاد بينهم.

استقبلت في الثانية عشرة والربع من ظهر الخامس عشر من حزيران (يونيو) على شرفة منزلي في الأشرفية الموفد الأميركي فيليب حبيب ومساعده موريس درايبر، والسفير روبرت ديلون، وحضر إلى جانبي أمين السر سمير مبارك. واستمر الاجتماع الذي تميز بجو هادئ ومنفتح، وتخلله غداء، حتى الساعة الثالثة إلا الربع حين وردت إلينا أنباء مقلقة من واشنطن استدعت رحيل الوفد الأميركي على عجل. كان محتوى جعبة فيليب حبيب يومذاك مختلفاً تماماً عن المرات السابقة. فقد طرح عملية دبلوماسية معقدة تفضي في نهاية الأمر إلى اتفاق سلام بين لبنان وإسرائيل، وإلى انسحاب الجيشين الإسرائيلي والسوري والمسلحين الفلسطينيين من لبنان، من دون الإتيان على ذكر المدنيين الفلسطينيين المقيمين في المخيمات، وإلى تشكيل قوات متعددة الجنسيات بإشراف الأميركيين تضم وحدات فرنسية وغربية عموماً، تتولى مهمة حفظ الأمن وإعادة إرساء هيبة الدولة بعد انسحاب القوات الإسرائيلية تباعاً من الأراضي اللبنانية. وأكد أن واشنطن منعت إسرائيل من استخدام الطيران الحربي الإسرائيلي في بيروت.

وعندما أشار السفير حبيب إلى موضوع السلام مع إسرائيل، انتفضت وقلت له بصراحة كلية إن مثل هذا الطلب ليس من مجال للنظر فيه، فلا رئيس الجمهورية ولا الحكومة ولا أنا يمكن أن نقبل بوضعه موضع بحث. وأضفت: «إن لبنان هو آخر دولة عربية يمكن أن توقع اتفاق صلح مع إسرائيل».

لم ألمس لدى حبيب التزاماً محدداً بالنسبة إلى توقف القوات الإسرائيلية عند خطوط معينة، وتأكيده إصرار بلاده الثابت على وقف إطلاق النار، وتنفيذ مقررات مجلس الأمن. وأبدى الموفد الشخصي لرونالد ريغان تأييده التام لتشكيل هيئة الإنقاذ الوطني التي «يجب أن تعمل على توحيد الكلمة بين اللبنانيين ولو إلى حد ما».

سألت السفير فيليب حبيب عن هوية المرشح لرئاسة الجمهورية اللبنانية الذي تدعم الولايات المتحدة ترشيحه في الاستحقاق الرئاسي المقبل. فأجابني: «ليس للولايات المتحدة من مرشح، ولكن ما أعرفه هو أنك يجب أن تبقى في وزارة الخارجية».

جنبلاط وحبيب

أثناء الاجتماع، اتصل الوزير مروان حمادة، وتحدث إلى سمير مبارك وطلب منه أن ينقل إلى فيليب حبيب رغبة وليد جنبلاط في الاجتماع به في منزل السفير الأميركي في اليرزة، إذا تمكن من مغادرة قصر المختارة، وفي حال لم يتمكن من ذلك، إيفاد حمادة ومسؤول اشتراكي آخر إليه. استمع حبيب باهتمام إلى رسالة مروان حمادة وحدد موعداً لجنبلاط في الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر اليوم نفسه. أما ما استدعى إنهاء الاجتماع بشكل عاجل فكان ورود رسالة عاجلة من واشنطن إلى فيليب حبيب تبلغه أن الإسرائيليين قرروا اجتياز خط طريق الشام وأن الاشتباكات قد استؤنفت. فاستشاط الموفد الأميركي غيظاً وشتم الإسرائيليين ونعتهم بالغباء، وفيما هو يغادر التفت صوبي وقال لي: «المسألة الأهم الآن هي الحؤول دون حرب سورية-إسرائيلية».

مساء الخامس عشر من حزيران، اجتمعت مع رئيس الجمهورية وتداولت معه في ما حمله السفير فيليب حبيب حول توقيع اتفاق سلام بين لبنان وإسرائيل. وكنا متفقين تماماً على رفض هذه الاتفاقية رفضاً باتاً. وتطرقنا إلى الاستحقاق الرئاسي وبدا لنا أن لبشير الجميل حظوظاً كبيرة في الفوز بها، وقال لي الرئيس سركيس: «إذا فاز بشير بالانتخابات فسيحكم لبنان بناء على قواعد جديدة وقد يحكم مدى الحياة، وأعتقد أنه سيوقع اتفاق سلام مع إسرائيل، وهذا الاتفاق سيسيء إلى لبنان، في الظروف الحالية».

وفي اليوم نفسه، أرسلت إلى مندوبنا لدى جامعة الدول العربية السفير حسين العبد الله برقية بشأن دعوة الكويت لعقد اجتماع المجلس على مستوى وزراء الخارجية لإبلاغ مضمونها إلى الأمين العام الشاذلي القليبي.

واجتمعت هيئة الإنقاذ الوطني برئاسة الرئيس الياس سركيس بحضور المبعوث الأميركي فيليب حبيب والأعضاء كافة في العشرين من حزيران (يونيو) في القصر الجمهوري. وسرعان ما انتقلت انقسامات البلد إلى طاولة الاجتماع بدل أن يتفق الفرقاء على جمع الصفوف وتوحيد الرأي ونبذ الخلافات لإخراج لبنان من محنته. استهل رئيس الجمهورية الجلسة بكلام حث فيه المجتمعين على توحيد الجهود والتكاتف من أجل اجتياز الأزمة الخطيرة الراهنة. ثم أعطى الكلام لبشير الجميل الذي دعا إلى طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة وإلى اتخاذ موقف موحد يطالب بخروج كل الجيوش الأجنبية من لبنان.

ثم تكلم وليد جنبلاط الذي رفض البحث في مسألة انسحاب الجيش السوري قبل جلاء القوات الإسرائيلية عن لبنان مما سبب صداماً بينه وبين بشير الجميل، فتبادلا بداية الانتقادات القاسية ولكن المبطنة، ثم ما لبث صوتهما أن ارتفع، فتدخلت محاولاً تهدئتهما وحملهما على التفاهم والحوار. وقد لفتني موقف نبيه بري الذي كان يساندني في الأفكار التي طرحتها بشكل دائم. وشارك السفير فيليب حبيب في النقاش وطرح أسئلة دقيقة تناولت مستقبل منظمة التحرير في لبنان ووجوب خضوعها للسلطة اللبنانية دون قيد، وتخليها عن صفتها العسكرية ونشاطها العسكري وطلب معرفة تصورات الحكم في هذا الاتجاه. أما موقف الرئيس الوزان فكان أقرب إلى موقف جنبلاط، وقد دفعني ذلك إلى أن أقول له بعد الاجتماع: «لقد اخترت الأمة بدل أن تختار لبنان».

الحصار الخانق

بعد انصراف الجميع، اجتمعت مع رئيس الجمهورية واستعرضنا ما جرى، فتأكد لنا أننا أمام حائط مسدود وأنه من الصعب إقناع الأطراف المتقاتلة بالتفاهم حول مطلب واحد. وعندما فاتحته مجدداً بموضوع تمديد ولايته، قال لي: «فؤاد، إني أفكر جدياً بالاستقالة قبل انتهاء ولايتي». فأجبته: «أنا أيضاً، فخامة الرئيس، لأنني لا أحتمل فكرة أن يذكر التاريخ أنني ضيعت الفرصة الوحيدة التي أتيحت لإنقاذ البلاد وتحريرها من الجيوش الغريبة كافة».

وقد عبر لي حينذاك السفير فيليب حبيب عن خيبة أمله من موقف القادة المسلمين حيال المطالبة بانسحاب جميع الجيوش الأجنبية من لبنان لافتاً إلى أن الرئيس شفيق الوزان كثيراً ما رفض الإجابة عن أسئلته في هذا الشأن. وقال لي: «إن أحداً لن يساعد لبنان من دون مساهمة جميع اللبنانيين». وفهمت مرة جديدة أن لبنان لن يتحرر ما دام مطلب خروج الجيوش الغريبة مسيحياً فقط. وفي ظل انقسام اللبنانيين ازدادت مخاوفي من وقوع البلد فريسة التجاذب بين سوريا وإسرائيل.

في ذلك اليوم، استقبلت السفير الفرنسي بول مارك هنري الذي أكد لي صحة المعلومات الصحفية المتداولة عن موقف وزير الخارجية كلود شيسون القائل بأنه من الصعب إيجاد حل للمسألة اللبنانية بمعزل عن تسوية القضية الفلسطينية. استأت جداً من الموقف الفرنسي الذي لم يأخذ بالاعتبار مصالح لبنان الذي يعاني منذ سنوات طويلة من جراء ربط قضيته بأزمة الشرق الأوسط. وأفهمت السفير هنري بطريقة لبقة أننا نعتبر أن الوقت غير مناسب لكي تتخذ بلاده مثل هذا الموقف شارحاً له تداعياته على محاولة إنقاذ لبنان من براثن الحرب.

اشتدت وطأة الحصار الإسرائيلي على بيروت الغربية وسط مخاوف لبنانية وعربية ودولية من احتمال قيام إسرائيل بدك المدينة لكي تجبر منظمة التحرير الفلسطينية على مغادرتها. وأثمرت مفاوضات السفير فيليب حبيب مع الحكومة اللبنانية ومع منظمة التحرير الفلسطينية عبر الرئيس الوزان عن خطة موسعة من ثلاثة بنود: وقف إطلاق النار، انسحاب إسرائيل مسافة خمسة كيلومترات إفساحاً في المجال أمام انتشار قوات متعددة الجنسيات أو وحدات من الجيش اللبناني لتشكيل حزام عازل، وإنهاء المفاوضات مع منظمة التحرير وإقناعها بمغادرة بيروت في أسرع وقت. وبدا لي السفير حبيب مقتنعاً بأن المسألة ستسوى في غضون أيام قليلة على رغم أننا لم نكن قد عملنا بعد على مجيء القوات المتعددة الجنسيات، فعبّرت له عن عدم مشاطرتي لتفاؤله بالنظر إلى خبرتي الطويلة في المسائل المتعلقة بالفلسطينيين.

يتبع

back to top