في حديث سابق أقمتُ قليلاً مع شعراء روس يُستعادون داخل عمل خيالي، نص يجمع بين الرواية والسيرة، عتمةُ مرحلةٍ تاريخيةٍ تُحيطُ قلوبَ شعراءٍ غاية في الحساسية والعذوبة. ومن المناسب هنا أن أقيمَ قليلاً مع نص آخر يجمع بين الرواية والسيرة، ولكن ما يحيط عتمة القلب فيه ليس مصدره التاريخ، بل التكوين النفسي والرؤيوي.

Ad

حياة الكاتب دوستويفسكي(1821-1881) مثيرة، شأن رواياته. بدأت رواياته الأولى تكشف عن روح ضحية لصراعات داخلية. انتمى الى الحركة الثورية الروسية وحُكم عليه بالإعدام عام 1849، حتى كاد يُنفّذ بحقه، لكنه سجن لسنوات أربع أورثته مرض الصرع.

ذروة نضجه بدأت عام 1866 مع رواية «الجريمة والعقاب»، ثم ألحقها برواية «المقامر»، وهي وليدة خبرة عُرف بها دوستويفسكي طوال حياته.

كان مهووساً بالمقامرة، وكانت خسارتُه عادةً ما تُحمّله ديوناً، كان يندفع باتجاه الكتابة لتسديدها، رواية «الجريمة والعقاب» خرجت مُسلسلةً في إحدى الصحف بالدافع ذاته، الدافعُ الذي كان يضطرّه أيضاً إلى الهرب إلى ألمانيا وايطاليا وسويسرا لتجنب دائنيه، ولكنَّ هذه الفترةَ المضطربة المعتمة كانت وراء سيل رواياته «الأبله»، «الأبالسة»، و«الزوج الأبدي».

كان يعرض فيها كلها كيف أن المهانةَ في الإنسان صنو العُجب والغرور، وأن الحبَّ قرينُ الكراهية، وأن الشكَّ العقلاني وجه آخر للإيمان الذي لا يتطلب عقلانيةً، محورُ تناقضٍ يشمل شخصَه وشخوص رواياته معاً، إضافة إلى إدمانه المقامرة، بلْ إدمانه الخسارة الدائمة فيها.

عبر رحلاته الأوروبية من أجل المقامرة، كان كثير التردد بصحبة زوجته على المدينة الألمانية «بادن بادن»، ولقد ألهمت هذه الحال طبيباً روسياً اسمُه لينيد تسايبكن، كتابةِ نصٍ يجمع بين الرواية والسيرة.

كان تسايبكن يقيم في موسكو، طبيباً في النهار وكاتباً في عزلةِ الليل، من دونَ رغبة أو أملٍ في النشر، ورفضت السلطات السوفييتية مرات عدة منحه فرصةً للسفر، وعلى الأثر فقد وظيفته وسلامة حياته، وبفعل تعلقه بدوستويفسكي استلهم إقامة الأخير المضطربة في بادن بادن ليكتب روايةً مشبعةً بروح الروائي الكبير، وبروحه هو، المُستَلبُ المعاصرُ في دولةِ الحكمِ الشمولي، هذه الرواية كُتبت تحت عنوان «صيف في بادن بادن»(1970)، ولقد هُرّبت مخطوطتها إلى الغرب، ونُشرت في إحدى صحف المهاجرين الروس الأميركية، بعد وفاته عام 1982.

تبدأ الرواية مع مثقف روسي يسافر في قطار من موسكو إلى لينينغراد، بصحبة «يوميات» كتبتها «آن» زوجةُ دستويفسكي. وعبر القراءة يروي لنا قصة مغادرة دوستويفسكي إلى مدينته بيترسبيرغ مع زوجته الشابة إلى «بادن بادن» عام 1867، حتى ليبدو الراوي مأخوذاً، مثل تسايبكن في حياتِه الواقعية، بحياة وكتابات الروائي الروسي المضطرب الممسوس.

الصورةُ التي نقلتها الروايةُ عن شخص دوستويفسكي رائعة، تعجز أمامها معظم كتب السيرة، رائعة في تصوير انعدام التوازن في شخص الروائي الكبير، في ولهه بزوجته وفي رغبته بتشويه سمعتها في الوقت نفسه، في هوسه المرضي بالمقامرة التي تقوده الى أن يرهن ملابسه وملابس زوجته، في رصد مزاجه المفاجئ. وفي نوبات صرعه.

ولقد كتب تسايبكن روايته بأسلوبٍ مفرطِ الحساسية، وغاية في المجارات، لا لأسلوب دوستويفسكي في رواياته فقط، بل لتيار هواجسه الداخلية كإنسان على قدر عالٍ من الالتباس. حتى لتتواصل الجملة الواحدة في الرواية الجديدة أحياناً الى صفحتين أو ثلاث. إنكَ مع تسارعِ الأحداث كأنكَ داخلَ حلمٍ ضاج، وهذا الأمر يُحيلُ، بصورة غير مباشرة، الى أحداثِ حياةِ الكاتب المعاصر تسايبكن الداخلية والخارجية، في مجتمع أسير لسلطة شمولية بالغة القسوة وحجر الحريات، وكأن الرواية تريدُ أنْ تعرضَ وجهيْ روسيا في آن واحد، روسيا القرن التاسع عشر، التي كانت تتنازعها التياراتُ المتطرفة في الأهواء السياسية، حيث كان دوستويفسكي يمثل الرؤية الدينية والقومية في مواجهة الفوضويين والعدميين، وفي مواجهةِ التيار الذي يدعو الى تمثّل الغرب الأوروبي ومحاكاته، والمتمثل في شخص الروائي تورجينيف.