السّلم الأهلي الّلبناني... موجبات التّسوية ومعايير الإصلاح

نشر في 15-06-2008
آخر تحديث 15-06-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ يضفي التّجاذب السّياسي المتواصل اليوم في لبنان، الكثير من عوامل الإثارة والمزايدات والتّبرير أيضا، على الوضع الأمني السّائد؛ منذ التّوقيع على «اتفاق الدوحة» وعودة «المتّفقين» إلى لبنان، ومن ثمّ البدء بتطبيق بنود الاتّفاق، إلى حدّ يمكن القول معه؛ وكأنّ الاتّفاق العتيد لم يحمل معه سوى إنجاز خطوة انتخاب رئيس للجمهوريّة، وما عدا ذلك فخاضع للتّجاذب والتّقاتل حتّى في الشّارع.

وما يجري في البلاد اليوم، انزلاق غير محمود نحو تنازع أهلي مقيم عنيف ومتواصل ومتنقّل، لم يعد من المجدي التّغطية عليه، أو نكرانه والتّنكّر له، وكأنّه يجري في مكان آخر. فالتّنازع الرّاهن الآخذ شكل تصارع إرادات؛ يخفت حينا ويشتدّ عنفا في أحايين أخرى، إنّما هو اختزال لما يمكن تسميته بـ«إرادة الغلبة» التي يدّعيها كلّ طرف في مواجهة الطّرف الآخر، وسط استدعاء لمرجعيّات تاريخيّة وراهنة، لا تخفي في طيّاتها نوايا ونوازع وإمكانات الاستمرار بالتنازع؛ حدّ استدعاء الحرب الأهليّة، وكأنّها نزهة عشّاق السّلطة نحو تكريس سلطتهم، أو كأنّها لعبة من يشتاق إلى تكريس سلطة مفتقدة يريد استعادتها!.

وفي الحالين لا تستطيع البلاد أن تتعايش طويلا، عند حدود تكريس «سيادات» الطّوائف والمذاهب على مناطقها المتداخلة والمختلطة، دون أن تضطر القوى الأمنيّة للتدخّل العنيف، بدلا من وقوفها متفرّجة إلى حين توقّف الاشتباك هنا أو هناك، ودون أن يكون لها أيّ سلطة في وقف المنازعات والاشتباكات. وفي هذا نوع من تآكل هيبة قوّة وردع الجيش والقوى الأمنيّة الأخرى، إحراجا وإخراجا لها من بوتقة مهماتها ووظيفتها الأساس في الحفاظ وحراسة أمن المجتمع.. والوطن.

يشكّل الإصلاح السّياسي في لبنان، إصلاح النّظام وانتقاله إلى سكّة الأنظمة السّياسيّة السّويّة، إحدى الضّرورات الأساس لتكريس سلم أهلي وبناء مجتمع مدني؛ يشكّلان بدورهما قاعدة بناء نظام وطني، عماده وحدة وطنيّة ومجتمعيّة فاعلة، تعمل كونها السياج أو الحرس الحديدي لنظام سياسي لا يقيم بنيانه على قاعدة أو قواعد طائفيّة أو مذهبيّة، وإلاّ فستبقى هذه الأخيرة هي الفاعل الرّئيس لتفجير النّظام من داخله، العاملة على منع قيام الدّولة الوطنيّة، أو قيام أيّ شكل جنيني من أشكال الوحدة الوطنيّة، طالما هي تتمسّك، بل تطالب وتنادي بالمحاصصة الطّائفيّة، وتخوض حروبها ومنازعاتها من أجل نخب أو بعض نخب ماليّة أو سلطويّة أو قوى هيمنة دينيّة -ولو ادّعت غير ذلك- تروم تحسين شروط استفادتها من نظام المحاصصات والامتيازات الطّائفيّة.

أمّا التّنازع على الحقائب الوزاريّة، فهو تنازع نخبوي طائفي ومذهبي بامتياز، ولا يمكن لأيّ أحد أن يدّعي أنّ تلك العمليّة مردّها إلى السّياسة، بينما التّنازع في الشّارع وبين المناطق أضحت مذهبيّة بأكثر من امتياز، كونها تستمدّ «امتيازها» الإضافي من تنازع «القيادات» الطّائفيّة والمتمذهبة، المنتمية إلى نظام طائفي لم ينتج تاريخيّا، ولن ينتج مستقبلا سوى صراعات عنيفة ودامية من أجل توزيع أو تقاسم الحصص والمغانم: حصص ومغانم النظام السّياسي والاقتصادي المتخلّف القائم في البلد، على أسس هي ذاتها التي كانت قائمة منذ العام 1943، بل هي تزداد تخلّفا ونكوصا وارتدادا على أعقابها، الأعقاب التي خلّفها نظام الوصاية والانتداب الاستعماري، دون أن يجرؤ ممثلو الطّوائف والمذاهب من داخل السّلطة التّمرّد عليها، والخروج من إساراتها نحو حرّية الوطن وحرّيتهم داخل الوطن.

وكما النّظام القائم اليوم، لم يعد يمتلك أكثر من وظيفة احتواء المنازعات الأهليّة وتطويقها، بالسيطرة عليها نسبيّا دون أن يرقى بتلك الوظيفة نحو حلّ المشكلات القائمة، أو النّاشئة بفعل عجزه وضعفه وربّما تواطئه، كذلك باتت اليوم ربيبته الأمنيّة؛ عاجزة هي الأخرى، عن حلّ المشكلات الأمنيّة أو إيجاد حلول تسوويّة لها توقف نموّها وتحدّ من تطوّرها على الأقل.

كما أنّ العجز عن إيجاد حلول أو مخارج حقيقيّة تستجيب لحاجات المواطنين الفعليّة، بما هم كذلك، وليسوا رعايا أو زبائن أو أو قطيعا فئويّا لدى زعماء الإقطاع الطّائفي أو المذهبي، يضع اللبنانيين أمام حاجة ملحّة لاستقرار سياسي وأمني يمهّد لضمان استقرار اقتصادي واجتماعي طويل الأجل، وهذا شرطه اللازم تأمين شروط والتزامات سلم أهلي يتساوى في ظلّه اللبنانيّون في الحقوق والواجبات الوطنيّة، دون الانزلاق نحو النّزاعات الأهليّة المدمّرة، الناتجة من عدم المساواة، النّاتجة بدورها وبالضرورة من نظام طائفي مهيمن، لم تعمل آليّاته وفق اتّفاق الطّائف، كما الدّوحة. ولن تعمل إلاّ على تدمير حقّ المواطنة والانتماء إلى دولة عصريّة حديثة، يتمنّى رؤيتها ويرغب العيش في ظلّها أغلبيّة صامتة، وأقلّية كبيرة ناطقة لا يسمع صوتها إلاّ همسا، في ظلّ تعالي الأصوات الطائفيّة والمذهبيّة المنتفعة.

لهذا.. تشكّل معركة الإصلاحات الدّستوريّة واحدة من معارك القوى اللاطائفيّة الديمقراطيّة والعلمانيّة، الأشدّ حرصا على تطبيق كلّ القرارات الوطنيّة الجامعة، والأكثر رفضا للقرارات الطّائفيّة الحريصة على نبذ كلّ إصلاح دستوري ممكن لصالح الوطن والمواطنين وأهداف التّغيير المنشود، في وطن يتآكله العفن الطّائفي، ويموت أبناؤه بين متاريس الزّعامات الطّائفيّة دفاعا عن مصالحها، واحتفاظا وتكريسا لامتيازاتها القاتلة في أروقة دولة طائفيّة، تباعد بينها وبين الدّولة المدنيّة، كما سبق أن باعدت بين حقوق الطّائفة وحقوق المواطنين، وأحلّت امتيازات قطيعيّة محل الحقوق والواجبات الطّبيعيّة للمواطنين الأحرار.

الإصلاح السّياسي الدّستوري وحده الّذي يمكن أن يؤدّي إلى استقرار سياسي وسلم أهلي دائم، وإلاّ فإنّ التّرقيعات التّلفيقيّة المناقضة لجوهر السّياسة والتّسويات التّوافقية فعلا، لن تقود إلاّ إلى التّجديد الدّائم للمنازعات الأهليّة، ولن يكون الخلاف على الحقائب الوزاريّة إلاّ واحدا من خلافات أعمق، وليس هناك أعمق من خلاف جذري وحاد على قانون للانتخابات، بات هو المعيار الأبرز للإصلاح السّياسي وللخروج من ربقة الهيمنة الطّائفيّة.

* كاتب فلسطيني

back to top