بعض أعضاء مجلس الأمة أصبح يُنظِّر في كل شيء، لأنه يعتقد أنه بمجرد أن يكون عضواً في المجلس «بغض النظر عن كيفية تحقق ذلك»، فإنه يصبح موسوعي المعرفة والثقافة، ويمتلك الحق في الإفتاء في كل ما تراه عيناه أو تسمعه أذناه؛ من غزو الفضاء إلى القوانين الفيزيائية، مروراً بخطط ومشاريع «مايكروسوفت»، وهو في حقيقة الأمر قد لا يعرف حتى جدول الضرب.

Ad

لذا... فلا غرابة إن مرت ميزانية التسعة عشر مليار دينار خلال تسعين دقيقة بعد مناقشة لا تمت إلى لغة الأرقام والبيانات والمشاريع العامة بصلة. ولا غرابة أيضاً إن شكَّلت أغلبية أعضاء المجلس لجاناً غير دستورية مهمتها انتهاك خصوصيات البشر كلجنة «الظواهر السلبية»، أو إن أقرت قوانين تتعارض مع الدستور، خصوصاً في ما يتعلق بالحريات العامة والشخصية كحرية الاختيار وحرية إبداء الرأي.

قد يقول أحدنا: إن أعضاء برلمانات العالم كافة يبدون رأيهم في السياسات العامة وفي القضايا جميعها ومشاريع القوانين التي ستناقش في البرلمان، وهذا صحيح لكن بشرط ألا يتعارض مع الدستور وألا يَحدَّ من الحريات المدنية. كما أن الأعضاء هناك لا يصرحون بشيء ولا يتخذون قراراتهم إلا بعد توافر ما يحتاجون إليه من بيانات ومعلومات عن طريق فرق العمل واللجان الفنية والمالية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المتخصصة.

المعروف في البلدان الديمقراطية كلها أن عضو البرلمان شخص سياسي من الدرجة الأولى، يتم ترشيحه من قبل حزب سياسي بعد عملية تأهيل قد تستمر سنوات عديدة يكون العضو قد تدرج خلالها في المراتب الحزبية المختلفة وتدرب على كيفية صياغة السياسة العامة واكتسب مهارات مختلفة تؤهله ليصبح شخصية عامة، حتى قبل أن يصل إلى عضوية البرلمان. لذا تجده يعرف بالضبط ماذا يقول؟ وكيف وأين ومتى يصرح؟ علاوة على أن عضو البرلمان في الدول الديمقراطية المتطورة لا يصرح ولا يبدي رأيه في قضية معينة إلا بناء على سياسة الحزب المبنية على دراسات وبحوث وآراء دستورية وقانونية معتبرة، لهذا تجد أعضاء البرلمانات الديمقراطية غالباً ما يدعِّمون وجهات نظرهم بالأرقام ويتحدثون عن سياسات عامة ولا يدخلون في تفاصيل العمل التنفيذي اليومي للحكومة.

ولكن ماذا عن الأعضاء المستقلين الذين لا ينتمون إلى أحزاب سياسية؟ هؤلاء أيضا يبنون آراءهم على دراسات وبيانات وأرقام دقيقة يوفرها لهم متخصصون، وهي التي جعلتهم يتفوقون في مناطقهم الانتخابية على مرشحي الأحزاب السياسية، وإن كانوا لا يشكلون إلا عدداً قليلاً غير مؤثر في أغلب برلمانات العالم.

المهم أن أعضاء البرلمانات الديمقراطية كافة يتبارون عند مناقشة الميزانية العامة للدولة مثلاً في دقة المعلومات والأرقام التي يوفرها كل طرف، وتراهم غالبا ما يتحدون البيانات والأرقام الحكومية ويدخلون في نقاشات علمية حامية حول السياسات العامة للدولة.

إذن، فالموضوع يتعلق بطبيعة وتركيبة نظامنا البرلماني والسياسي ككل وليس بالقدرات أو المهارات الفردية للأعضاء التي ستظل قاصرة مهما بلغت. والأنظمة السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تبنى عادة على رؤية وأسس ونظم عامة لا على مهارات فردية. لهذا كان اعتراف أعضاء مجلس الأمة بعدم قدرتهم على الإلمام بمتطلبات العمل البرلماني كله، ولكنهم بدلاً من معالجة المشكلة بشكل جذري نراهم يحاولون ترقيعها بطلب زيادة عدد السكرتارية إلى خمسة عشر سكرتيراً لكل عضو. ولكن هذا لن يحل المشكلة حتى لو زادوا عدد السكرتارية إلى خمسين، لأن المشكلة لدينا بنيوية تتعلق بتركيبة النظام البرلماني ككل، التي من ضمنها تنمية الثقافة السياسية، وتطوير آليات الانتخاب وكيفية وصول الأعضاء إلى المجلس. وما لم يتغير هذا النظام، من خلال السماح بقيام الأحزاب أو الجماعات السياسية القائمة على أسس ديمقراطية ملتزمة بالدستور، فإن عمليات الترقيع لن تجدي نفعاً. بمعنى آخر ما لم نغير من المعطيات أو المدخلات، فإن النتائج ستظل كما هي ولن يفيد اتساع الدائرة الانتخابية. وهذا هو بالضبط ما عكسته نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي تمت على نظام الدوائر الخمس. فهل تبادر الحكومة أو إحدى الكتل البرلمانية -بدلاً من قيام كل طرف بتحميل مسؤولية تعطيل التنمية على الطرف الآخر- باقتراح تغيير هذا الوضع السياسي المختل الذي جعل بلدنا يتخلف تنموياً على المستويات كافة، وجعلنا نصبح ونمسي على تصريحات فارغة ومستهلكة للنائب «الموسوعة» الذي يصرح في كل شيء رغم أنه لا يفقه شيئاً؟!