يستعرض عاصم عبدالماجد في هذه الحلقة كيف اخترعت «القاعدة» لنفسها مبدأ فقهياً جديداً ونوعاً جديداً من القتال مفاده قتال «المستأمنين» في بلاد المسلمين مثلما فعلت في السعودية، ويفند الأسانيد الفقهية التي اعتمدت عليها «القاعدة» في قتالها الجديد المستحدث.

Ad

الجريدة

عرفت بلاد المسلمين -منذ أن صار لهم دار ووطن- نوعين أساسيين من القتال، إما القتال دفاعاً عن هذه الديار ضد معتدٍ من الخارج يبغي احتلالها وإضاعة شرائع الإسلام القائمة فيها، أو ضد باغٍ داخلي يريد سلب السلطة من الأئمة، أو ضد فئة من أبناء الدار أيضاً من أهل الابتداع أو من الفساق الممتنعين عن شرائع الدين بالقوة والشوكة. وواضح أن هذا النوع من القتال بشتى صوره يكون تحت راية الإمام أو بإذنه المباشر أو على أقل تقدير برضاه... وإما أن يكون القتال خروجاً على هذا الحاكم لخلعه وإزالة سلطانه. وقد أذن الشرع في هذا القتال في حالة واحدة قال عنها رسولنا صلى الله عليه وسلم: «أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان».

بعض الحركات الإسلامية -ومنها «القاعدة»- قد استحدثت نوعاً جديداً من القتال أزعم أنه لم يكن معروفاً من قبل في أمتنا كما أزعم أنه لا يجوز، لأنه لا يفضي إلى المقصود، كما أن مفاسده تكون ضخمة جدا... وهذا بيان لما قلته والتدليل على ما زعمته.

السعودية هدفاً

القتال الذي أشعلته «القاعدة» بعمليتها التفجيرية في «الرياض» التي تكررت مرات-كمثال- لا هو قتال تحت راية الإمام ولا بإذنه ولا رضاه ولا هو قتال لخلع هذا الإمام -بغض النظر مؤقتاً عن مدى مشروعية ذلك إذ ليس هذا غرضنا الآن- وإنما هو قتال رغم أنف الإمام موجه أساساً ضد رعايا دول أخرى موجودين بإذن هذا الإمام وتحت حمايته على الأراضي السعودية.

وهو يفضي لا محالة إلى وقوع قتال بين الإمام وأعوانه وجنوده من جانب، و«القاعدة» على الجانب الآخر، وهذا ما حدث بالفعل وتحول القتال من أن يكون بين «القاعدة» والأجانب الموجودين بالسعودية إلى قتال بين «القاعدة» والسلطات السعودية.

والذي نعرفه من العقل أنه إما أن تكون السلطات السعودية في عرف «القاعدة» لا يصح الخروج عليها شرعاً، وإما أن يكون الخروج عليها واجباً شرعاً، ولا ثالث لهذين الاحتمالين، فإن كان لا يصح الخروج عليها فلا تصح تفجيرات الرياض لأكثر من سبب، والذي يهمنا منها الآن سبب واحد وهو أن هذه التفجيرات ستؤدي لا محالة إلى اقتتال بين القائمين بها وطائفتهم وسلطة مَنَعَ الشرع مقاتلتها.

وهناك أسباب أخرى لمنع مثل هذه التفجيرات سيأتي بيانها، إن شاء الله، تباعاً في مواضعها الملائمة.

أما إن كانت «القاعدة» تبيح الخروج على السلطات السعودية ذاتها -وهو شيء غريب لو كان هو مذهبها حقاً- فإما أن تكون «القاعدة» قادرة على هذا الخروج وإما لا. فإن كانت قادرة فلماذا لم تفعل وهي تعتقده واجباً شرعياً؟ وإن لم تكن قادرة فلماذا تستثير السلطات السعودية بما يفضي إلى قتال هي عاجزة عنه وغير قادرة على تحمل تبعاته؟ ولماذا تجر على العباد والبلاد فتناً وشروراً وتجر على أتباعها حرباً وبلاءً؟

وقد قال الفقهاء: إنه إذا وجب الخروج على الحاكم -لكفره أو تغيير الشرع- فمن عجز عنه هاجر، ولم يقولوا: إن عجزت عنه فعليك بمناوشته ومناكفته بالقوة حتى تجر على نفسك وأتباعك الضرب والحرب والبلاء والعناء من دون أن تحقق شيئاً من أهدافك، فسرعان ما يتم القضاء على تلك الخلايا -نائمة كانت أو مستيقظة- تحت ضربات أجهزة أمن داخلية وبمعونة استخبارات الدول التي استهدفت رعاياها.

«القاعدة» لا يعادي الغرب

لو كان رهان قادة «القاعدة» على أن انتشار هذه العمليات في طول الأرض وعرضها كاف لزعزعة استقرار بعض الحكومات وسقوطها في يد الإسلاميين أو لإجبار الدول الغربية وتحديداً -أميركا- على تغيير سياستها حيال «القاعدة» فإنهم- أي قادتها- يكونون مخطئين خطأ شديداً فإن الحكومات لا تسقط إطلاقاً، لأن مئات أو آلاف الأجانب قتلوا على أرضها، وحتى لو كانت مثل هذه التفجيرات تؤدي إلى سقوط حكومات فإن القوى الخارجية التي تستهدف القاعدة رعاياها ستدعم هذه الحكومات بكل ما تستطيعه ولو أدى الأمر إلى تدخلها بالجيوش لمنع هذه الحكومات من السقوط، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه. فإن كانت «القاعدة» لم تستطع حماية الحكم الإسلامي في أفغانستان بضعة أيام في وجه الهجمة العسكرية الأميركية... فهل ستقدر على إسقاط أنظمة وإقامة أنظمة مكانها موالية لها؟

لكن الهدف الحقيقي لـ«القاعدة» ليس إسقاط أنظمة بل هو -كما تعبر عنه كلمات قادتها- إجبار الولايات المتحدة على تغيير سياستها حيال «القاعدة» تحت ضغوط شعبها الذي ستؤرقه كثيراً فداحة الخسائر التي ستلحقها به «القاعدة» ومن سلك مسلكها، وهذا الهدف بهذه الوسيلة ظهر جليا في كلمة الأخ أيمن الظواهري التي أذيعت في الذكري الثانية لأحداث سبتمبر، فهو يقول للشعوب الغربية إنه لا يستهدف عداوتهم، ولكن من مد يده بالأذى فسوف تقطعها له «القاعدة»، ثم هو يصيح بالحكومة الأميركية أن تعترف بخسائرها الحقيقية في العراق وأفغانستان ثم هو يتعهد بمواصلة الجهاد، ومن قبل كان قد صدر كتاب عن تفجيرات الرياض قالت فيه «القاعدة»: إن العمليات مستمرة

وبشّرت الدول التي لم تقع فيها تفجيرات بعد بأن دورها سيأتي لا محالة، مع تأكيدها البشرى للدول التي نالت نصيبها بأنها ليست في مأمن من تكرار المحاولة.

نصر بعيد المنال

لا أدري حقيقة كيف غاب عن الأخوين قائدي «القاعدة» أن هذا الطريق الذي يحثان الحركات الإسلامية والشباب المسلم على سلوكه لا يفضي إلى المطلوب بل يفضي إلى عكسه تماماً؟

فإن كل بلد ستفلح «القاعدة» أو المتأثرون بنهجها في القيام بعمليات عسكرية فيه ستستنفر كل أجهزته الأمنية والإعلامية وغيرهما للقضاء على من قام بهذه الأعمال، وستكون النتيجة النهائية أن تتحول بلاد العالم كلها إلى ساحات حرب ضد «القاعدة» وأتباعها.

ولا يوجد إنسان عاقل يجترئ على القول إن هناك احتمالاً ولو ضعيفاً أن تكسب «القاعدة» ومن استجاب لها هذه الحرب المفتوحة، وستؤول الأمور إلى ضعف تدريجي لـ«القاعدة» ثم النهاية المعروفة، هذه واحدة.

أما الثانية، فإن الولايات المتحدة ورعاياها سيكونون بعد قليل من بدء تطبيق «القاعدة» لخطتها في مأمن لانشغال التنظيم بمقاتلة الحكومات والأنظمة التي وقعت على أراضيها عمليات ضد الرعايا الأميركيين وغيرهم. وهذا ما يحدث الآن في السعودية فالقتال والمناوشات دائرة بين الشرطة السعودية وخلايا «القاعدة».

أما الأمر الثالث الذي يمنع «القاعدة» من جني ثمار خطتها، فهو أفعال «القاعدة» ذاتها واستراتيجية عملها.. فإن غزوة «مانهاتن» كما يسمونها أسفرت عن وقوع أكثر من ثلاثة آلاف قتيل في عقر الدار الأميركية، وبالتالي فلا قيمة لأي تضحيات أخرى يدفعها الأميركيون خارج أراضيهم طالما أن الأمور ستتجه في النهاية نحو تأمين الداخل الأميركي، ولو افترضنا أن «القاعدة» أفلحت في الإفلات بعملية أخرى إلى الداخل الأميركي فلن تؤدي هذه إلى تثوير الشعب على الحكومة اليمينية هناك، بل ستؤدي إلى تقوية نفوذ المحافظين الجدد وإعطائهم صلاحيات أوسع وتفويضاً أشمل للعمل على القضاء على الخطر الذي يتهدد الداخل الأميركي.

المحافظون الجدد والرقص طرباً

يتعجب المرء عندما يسمع الشيخ أيمن الظواهري يستحث الحكومة الأميركية على إعلان خسائرها الحقيقية في أفغانستان والعراق، هب يا سيدي أنهم عدة آلاف أنسيت أنكم قتلتم ثلاثة آلاف مدني في ساعة واحدة، وأنكم توعدتم بغزوة أخرى في عقر الدار الأميركية تنسيهم «غزوة مانهاتن» فأي قيمة بعد ذلك لألفي قتيل أو أكثر من العسكريين يموتون خارج الحدود دفعاً لعدو يتربص بالمدنيين ويقتلهم بالآلاف. بل الحق أن «غزوة مانهاتن» كانت الفرصة السانحة التي رقص لها المحافظون الجدد في أميركا طرباً ووجدوا فيها ضالتهم المنشودة لتحقيق مطامعهم عبر مخططات رهيبة كانوا بالفعل يعدون خطوطها العريضة لكن لا يستطيعون تنفيذها لفرط بشاعتها ولكلفتها السياسية والمادية والبشرية التي لا يسمح الشعب الأميركي بدفعها، حتى أخطأت «القاعدة» خطأها الفاحش في «مانهاتن»، والتقط اليمين الأميركي الفرصة وضللوا الرأي العام الداخلي وأرعبوه وخوفوه حتى أعطاهم تفويضاً كاملاً بفعل ما يريدونه ثم انطلقوا يبتزون العالم كله ويرهبونه حتى ما عاد أحد قادراً على إيقاف مخططهم المجنون.

وليس الأمر كما قال الشيخ أسامة بن لادن أخيراً: من أن هذه المخططات كانت ستنفذ سواء وقعت أحداث سبتمبر أم لم تقع، فهذا مجرد اعتذار منه يريد به تخفيف آلامه النفسية لشعوره بأنه هو المسؤول الأول عما حدث سواء في أفغانستان أو غيرها. ونحن نقدر الظرف النفسي الدقيق الذي يمر به الرجل، لكن هذا لا يمنعننا من أن نبين له خطأ حساباته لا لوماً على ما مضى، بل حذرا من تكرار الخطأ ، فإن الرجل على ما يبدو عازم على تكرار فعلته إذا استطاع وسنحت له الفرصة ظاناً أن إحداث نكاية أكبر في مرة قادمة كاف لاسترداد ما ضاع أو لوقف مسلسل الخسائر على الأقل، وهذا غير صحيح بالمرة، فإن كل قتيل مدني أميركي أو غربي يسقط في بلده أو غيرها من بلاد العالم الإسلامي سيؤدي إلى زيادة نفوذ اليمين الأميركي وإلى إطالة أمد التفويض الممنوح له من الشعب الأميركي لاجتثاث مصادر الخطر.

ولنا فيما حدث بعد مانهاتن عبرة، فلماذا يصر بعضنا على أن يلدغ من جحر مرات ومرات، وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين».

علامة تعجب!

إذا تأملنا جيداً في عواقب التفجيرات التي تقوم بها «القاعدة» وأخواتها في بلاد العالم الإسلامي، لاكتشفنا أن هذه العمليات لا مستقبل لها وأنها بلا أمل في تحقيق الهدف الذي قيل في تبريرها، بل إنها تحقق عكسه تماماً من تشديد وتكثيف المتابعات الأمنية ليس للقاعدة فحسب، بل لكل الحركات الإسلامية... بل إن الأمور وصلت إلى ما هو أبعد من ذلك، ففي بعض بلاد عالمنا الإسلامي يتم نقض عرى الإسلام الباقية في الأمة عبر الحذف والتعديل في المناهج التعليمية وشن الحملات الإعلامية ومحاولة طمس الهوية الإسلامية، إما بضغط مباشر من الولايات المتحدة، هذا الضغط الذي يزداد شدة وقسوة على كل بلد تمس رعايا الغرب فيه تفجيرات «القاعدة»، وإما بنصح من قوى سياسية داخل بعض أوطاننا ممن يتكلمون بألسنتنا ولا يحبون ديننا.

بقيت علامة تعجب كبيرة مازالت مرتسمة في ذهني حيال موقف «القاعدة» من السعودية، فالذي أعرفه بل ويعرفه صغار طلبة العلم الشرعي والمبتدئون في طريق الالتزام فضلاً عن كبار أهل الدين وعلماء الشرع، أن السعودية هي صاحبة النصيب الأوفر في إقامة شرائع الإسلام وشعائره وآدابه في عالم اليوم. فبأي كتاب أم بأي سُنة تحولها «القاعدة» إلى ساحة حرب تتقابل فيها السلطات السعودية وبعض الشباب المسلم؟ ولماذا هانت شرائع الإسلام وشعائره وداره ومعقله الأول على «القاعدة»؟ وكيف سوّت «القاعدة» بين دار الإسلام وحصنه الباقي من جانب وديار الكفر على الجانب الآخر... فجعلت للرياض غزوة ولمانهاتن غزوة؟ وهل هذا إلا دليل جلي على خلل عظيم تنطوي عليه سياسات «القاعدة»؟!