إن المبادرة في إنشاء لجنة وطنية لوضع آلية لحفظ الأرشيف الوطني واستعادة المفقود منه أمر أصبح ملحاً يجب المباشرة به اليوم قبل الغد، وكذلك فإن رسم سياسة للحفاظ على المباني المميزة وتصنيفها مسألة لا يمكن التغاضي عنها.

Ad

مَن ممن عاصروا حقبة السبعينيات وبداية الثمانينيات في الكويت، لا يذكر شارع الخليج العربي ببساطته وجماله، قبل إقامة الواجهة البحرية بمطاعم الوجبات السريعة والأكلات الأممية من كل حدب وصوب؟

ذلك الشارع البسيط وشاطئه «دح الموي»، وصوت الأمواج المختلطة بشدو المبدع عبدالكريم عبدالقادر في رائعته «تأخرتي»، وهي تنساب من مسجلة «كاترج» في سيارة «أمبالا» حمراء بـ«هارتوب» بيج، ورائحة شواء «أبوالعبد» وقبيلته (زوجته وأبناؤه من جميع المراحل العمرية) تملأ المكان.

وذاك الشاب المجتهد الذي يقلب أوراقه وكتبه تحت «الشبة» استعدادا لامتحانات الثانوية العامة، وإلى جانبه «مطارة الفيمتو» لتخفف عليه وطأة الرطوبة والحر في شهر مايو... كل هذا يجري بينما يسود الشارع هدوء لا يقطعه سوى استعراض «ربع شبكوه» بسيارات الـ«جي تي أو» و«الكامارو» دون أن يتعرضوا لأحد أو يتجاوزوا على العائلات.

ولنرَ سوياً ذاك المنظر الجميل لأبراج الكويت التي أوشكت على الانتهاء، ومطعم «الرقية» قرب مبنى تلفزيون الكويت القديم، وفتيات بـ«عباية الراس» يجلسن بجانب سياراتهن قبل أن تغزونا ما يطلق عليها الآن العباءة الإسلامية.

صورة جميلة في مخيلة أبناء ذلك الجيل، ولكنها اختلفت كثيرا على الأرض، فتغيرت المعالم والناس وبقيت الذكريات، ولكن أين هي تلك الذكريات؟ وكيف يمكننا استعادة مشاهدتها؟ أهي موجودة مصوّرة أو مطبوعة في أرشيفنا الوطني؟

للأسف، فإن أهم التسجيلات التلفزيونية لروائع الفنان عبدالكريم عبدالقادر و«نَفَسْ» الأصالة الكويتية الشاعر بدر بورسلي وغيره من المبدعين، تعرض للتبديد والفقدان ولا توجد لهم أشرطة صالحة للبث التلفزيوني في وزارة الإعلام، وهي بالمناسبة في أغلبها مصوّرة على شارع الخليج وتستعرض تفاصيله وعمرانه في تلك الفترة، مثل أغاني «تأخرتي ومشتريه ووداعية». ولا يقتصر الفقدان على إبداعات وروائع فنانينا، بل تعداها إلى ضياع عدد من الشرائط والتسجيلات التي تؤرخ أحداثاً وطنية وأعمالاً فنية متنوعة وقيمة لمبدعين آخرين من مكتبة وزارة الإعلام.

وكما لشارع الخليج من ذكريات، فإن مناطق الكويت كلها تحمل كماً من الذكريات الجميلة والمختلفة، ولكن الملاحظ في الآونة الأخيرة، على سبيل المثال، وبعد عمليات الإزالة والهدم، اختفاء أي معلم أو صلة لمنطقة السالمية التجارية والسكنية بمحيطها أو بيئتها، فلا يوجد وسط العمران الحديث أي علاقة للتراث الكويتي بالمنطقة، سوى مبنى واحد بعمارة كويتية قديمة كان سابقا مقرا لـ«منجرة الصباح» في تقاطع شارع حمد المبارك مع شارع بغداد.

فهل تبادر الدولة إلى ترميمه وتحويله إلى معلم يؤرخ للعمارة الكويتية في إطار مشروع لإقامة ساحة عامة تربط زائر هذه المنطقة التجارية المهمة ببيئتها وهويتها؟ وهل ستسارع الجهات المعنية إلى الموقع قبل تسويته بالأرض؟!

فمهمة الحفاظ على معالم تلك المرحلة وأرشيفها بالنسبة لنا ولأبناء جيلي وللأجيال المختلفة، تبقى مهمة وطنية ملزمة للحكومة، فلا يوجد مجتمع بلا ذاكرة يختزنها أرشيفها الوطني المقروء والمسموع والمرئي. لذا يتعين علينا أن تكون حمايته (الأرشيف الوطني) بنفس الحرص على احتياطاتنا النقدية وخزائن بنكنا المركزي، ولذلك فإن المبادرة بإنشاء لجنة وطنية لوضع آلية لحفظ الأرشيف الوطني واستعادة المفقود منه أصبحت أمراً ملحاً يجب المباشرة بها اليوم قبل الغد، وكذلك فإن رسم سياسة للحفاظ على المباني المميزة وتصنيفها مسألة لا يمكن التغاضي عنها.