الحقد على دبي

نشر في 01-03-2009 | 00:00
آخر تحديث 01-03-2009 | 00:00
 ياسر عبد العزيز مطعم إيطالي، يملكه مستثمر جنوب إفريقي، ويعمل فيه نادلون من الهند والفليبين ولبنان، وتغني فيه مطربة تشيكية ألحاناً فرنسية، ويجلس على طاولة واحدة من طاولاته رجل أعمال إماراتي من أصل عماني، وصحافي مصري، ورسام أميركي من أصل كوبي، وخبيرة معلومات بريطانية من أب جزائري وأم فلسطينية، ومستثمر إيراني عاش جل عمره في ألمانيا. المكان ليس سوى دبي، ولا يفترض أن يكون في غير دبي؛ حيث ملتقى العالم، والأفكار المحلقة، والغلاء والمتعة، واجتراح المعجزات... وأزمة مالية طاحنة تهدد بالقضاء على إشراقة لمعت في صحراء الخليج القاحلة متعهدة بعدم الكف عن الإبهار.

لسنوات طويلة كان العالم مأخوذاً بالتطور الجاري في تلك الإمارة الصغيرة على الساحل الغربي للخليج العربي، ومع النجاحات المطردة، والإنجازات التي ظهر بعضها استعلائياً ومغالى فيه، برز الحديث عما سمي «فقاعة دبي»؛ إذ تم تقويم الحاصل هناك على أنه محض «انتفاخ وهمي غير مبني على أساس متين، لن يلبث أن ينفجر، مخلفاً وراءه خسائر وأحزاناً».

والواقع أن هذا التفكير لم يكن استشرافاً مبنياً على قواعد منهجية محددة، كما لم يكن خلاصة أبحاث مقنعة ومبرهن عليها، بقدر ما بدا كأنه «تفكير بالتمني»، حرص على توقع انهيار تلك الإمارة، بدوافع كثيرة؛ منها التبرؤ من انتقادات بالخمول والعجز عن المبادرة، وتبرير التراجع في مضمار المنافسة، أو حدس مهيمن يرتكز على قناعة تكرست عن «الطير الذي ما طار وارتفع، إلا كما طار وقع»، لكنها جميعاً، وبقليل من المبالغة، كان يمكن وضعها تحت عنوان كبير هو «الحقد على دبي».

«الحقد على دبي» ظهر جلياً منذ تبلورت الأزمة المالية التي تضرب العالم بقسوة منذ الربع الأخير من العام المنصرم، وقد تجسد في طيف عريض من «الشامتين» أو «المرتاحين» لأعراض الأزمة التي كانت أكثر وضوحاً في تلك الإمارة بالضرورة، كونها كانت أكثر المستفيدين من الانتعاشة التي استمرت معظم سنوات العقد الراهن، مدفوعة بأسعار النفط المرتفعة، وزيادة الطلب على السلع والخدمات، والطفرة القياسية في قطاعات العقار والترفيه والخدمات المالية خصوصاً.

وللأسف الشديد، فإن هذا «الحقد» لم يقتصر على المنافسين الرئيسين في الغرب لدور الوساطة المالية النشط التي لعبته الإمارة بمهارة، فتفوقت على أربابه وسدنته، ولم يتوقف عند بعض الدول الإقليمية المحيطة التي أثارها الانفتاح الحاصل في الجوار، وأربكتها وتيرة المبادرة السريعة، وجلدت النجاحات ضعفها وعززت فرص ناقديها في كيل المآخذ ضدها، كما أنه لم يقتصر على نقاد الانفتاح الاجتماعي القياسي ودعاة «الثبات على القيم واحترام العادات».

لقد زاد طيف «الحقد» وعمّ، فشمل جغرافيا بدأت من مقربين، وبعضهم كانوا شركاء في النجاح، وامتد ليصل إلى هؤلاء البعيدين خلف المحيطات، كما ضم فرقاء لم يجتمعوا من قبل على موقف سوى القلق العميق من مبادرات دبي، ولم يستثن حكومات أو منظمات دولية أو جماعات وطوائف ووسائل إعلام، حتى وصل إلى الإنسان الفرد الذي بدا «تشفيه» بسبب الأزمة الطاحنة التي تعانيها الإمارة في الوقت الراهن محل تعجب حقيقي.

كتبت «لوس أنجليس تايمز» أن «دبي قد تكون بصدد الانهيار»، فيما تحدثت «نيويورك تايمز» عن «السقوط المتصاعد» في تلك الإمارة، قبل أن تلخص «نيوزويك» الأمر في عبارة شديدة الاختصار والحسم؛ إذ قالت: «وداعاً دبي». لم تجد وسائل إعلام مرموقة وذات سطوة كبيرة في الغرب أي غضاضة في ترجمة الضغوط على دبي إلى قناعة لا تقبل الجدل بانهيارها وانتهاء عهدها، وقد استندت في ذلك إلى معلومات، بعضها صحيح، عن ديون فاقت الـ 80 مليار دولار على الشركات التابعة للحكومة، وأخرى تتعدى ربع التريليون دولار على مستثمرين ومشروعات وشركات أخرى تعمل في الإمارة. كما استشهدت بتراجع في النشاط العقاري يقارب الـ 30%، واستغناء مطرد عن العمالة بلغ نسبة 25%، وثلاثة آلاف سيارة مصطفة في مطار الإمارة، فر أصحابها عجزاً عن الوفاء بديونهم، و1500 تأشيرة تلغى يومياً، وتراجع متوقع في عدد السكان يبلغ 5% بنهاية العام الجاري، وانخفاض حاد مطرد في البورصة، وعزوف ملحوظ عن الزيارة، انعكس في تدني الإشغالات في الفنادق والمنتجعات.

عربياً؛ إذا كتبت عبارتي «انهيار دبي» و»سقوط دبي» على أي من محركات البحث الكبرى لوجدت آلاف النقرات؛ معظمها على المنتديات التي يرتادها الجمهور العادي، ومعظمها يعكس تشفياً يبدو غير مفهوم.

تتداول مجموعات بريدية عديدة على الإنترنت راهناً مجموعات من الصور توضح الحال في دبي في عام 1962، كما كان بادياً في الميناء البدائي، والمطار غير المجهز، والسوق التقليدية، والسكان البسطاء، مقارنة مع صور التقطت في العام الفائت لمواقع في الإمارة تمثل بعض أكثر مرافق العالم حداثة وجاهزية وانضباطاً ورفاهية، وقد علّق أحدهم قائلاً: «هل تعود دبي إلى ما كانت عليه قبل أكثر من أربعين عاماً؟»

يبدو أن دبي لن تعود إلى ما كانت عليه، وأنها ستكون قادرة على المرور من تلك الأزمة؛ ليس فقط لأنها أصدرت سندات حكومية بقيمة عشرين مليار دولار، تمت تغطية نصفها، ما سيؤهلها لسداد مديونيات العام الجاري كلها، وليس فقط لأن شريكتها أبوظبي لن تتخلى عنها، حتى لو اقتضى الأمر أن تساندها ببعض من فوائضها المستثمرة في صندوقها السيادي الضخم، ولكن لأنها بنت سمعة حقيقية، واكتسبت ثقة فاعلين مؤثرين في المنطقة والعالم.

مرت دبي من أزمات كثيرة سابقاً؛ منها أزمة إنتاج اللؤلؤ الاصطناعي، والتراجع الكبير في أسعار النفط في التسعينيات من القرن الفائت، والتوتر الأمني أثناء الحرب العراقية- الإيرانية وانعكاساته على اقتصاداتها، وغيرها، وقد برهنت على قدرتها على التكيف والنفاذ.

وحين تخرج دبي من الكبوة الراهنة، وتتمركز مجدداً كوسيط عالمي وإقليمي ومنجم للمبادرة والأفكار الأخاذة، لن تكون مطالبة فقط بتعزيز قواعد اقتصادها لتكون أكثر منعة وتنوعاً ومرونة في مواجهة الصدمات، وبمكافأة أصدقائها وشركائها الذين ساندوها في محنتها، وببناء احتياطي مالي مناسب يمكنها من مواجهة العثرات، ولكنها ستكون مطالبة أيضاً بتقصي أسباب ما ظهر ضدها من أحقاد، والعمل على معالجتها بكثير من التواضع والمحبة، وإشراك الكثيرين في مزايا نجاحها وعوائده، وتطييب خواطر المحيط ببعض من الحذر والتحسب والاعتدال.

* كاتب مصري

back to top