Ad

لو وجدت أميركا بلداً عربياً، له من الإمكانية العسكرية والاقتصادية والعلمية والسياسية، ولديه «لوبي» قوي كاللوبي الصهيوني «إيباك» المؤثر في القرار السياسي الأميركي الخارجي بواشنطن، لما توانت في تعيينه شرطياً للمنطقة.

«كُثر الدلال يُفسد الحبيب».

هذا قول عربي مأثور، وهو ما يمكن أن ينطبق على علاقة أميركا بإسرائيل، منذ نصف قرن إلى الآن. فمنذ قيام الدولة الصهيونية عام 1948، وأميركا تفتح خزائنها، ومستودعات سلاحها، ومنابر إعلامها، وقاعات جامعاتها، لكل ما يُمكنه دعم الدولة الصهيونية في فلسطين. فقد تعدى الدعم الأميركي الشامل للدولة الصهيونية كل حسابات الأصدقاء للأصدقاء، والحلفاء للحلفاء، إلى درجة أن بعض المعلقين الأميركيين يقولون إن الحكومة الفدرالية تدعم وتموّل إسرائيل أكثر مما تدعم وتموّل ولايةً ما من ولاياتها الخمسين.

وهذا الدعم غير المسبوق وغير المحسوب حساباً دقيقاً، من الممكن أن يكون قد عاد بفائدةٍ ما على أميركا، وهي فائدة -في ظننا- لا تتعدى جعْل أميركا لإسرائيل «القبضاي» صاحب العصا الغليظة (الشومة)، لتأديب المارقين والمنشقين والإرهابيين من السياسيين، في منطقة الشرق الأوسط. والقيام بالضربات الاستباقية لكل ما ترى أميركا، أنه يهدد مصالحها العسكرية، والسياسية، والاقتصادية في المنطقة. وإسرائيل ببساطة -وكما قيل ملايين المرات- هي بوليس وحرس أمن أميركي، في منطقة الشرق الأوسط. ولعل المناورات العسكرية الإسرائيلية، في اليونان أخيراً، والشائعات التي تملأ مجالس ودواوين ومنابر إعلام الشرق الأوسط والعالم، من أن ضربة عسكرية إسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية قادمة، في هذا الصيف، أو في مطلع الخريف القادم، وقبل مغادرة جورج بوش للبيت الأبيض، خير دليل جديد على ذلك.

ولو وجدت أميركا بلداً عربياً، له من الإمكانية العسكرية والاقتصادية والعلمية والسياسية، ولديه لوبي قوي كاللوبي الصهيوني «إيباك» المؤثر في القرار السياسي الأميركي الخارجي في واشنطن، لما توانت في تعيينه شرطياً للمنطقة، وحارس أمن المنطقة، وبرتبة عسكرية رفيعة. فلا توجد حتى الآن دولة عربية واحدة، أو شرق أوسطية، تصلُح لهذا الدور الأميركي المهم والحيوي في المنطقة، ولم توجد مثل هذه الدولة، خلال نصف قرن مضى.

ولا شك أن أميركا، قد لحقها من جراء دعمها هذا الدعم اللامحدود للولاية الحادية والخمسين (إسرائيل)، الكثير من الأذى والعديد من الأضرار، ومنها:

-1 أصبحت أميركا مكروهة كراهية شديدة من الشارع العربي يميناً ووسطاً ويساراً، نتيجة لعدم حسمها الحسم اللازم لقيام دولة فلسطينية. وربما كان لأميركا صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في هذا الموضوع، العذر والحجة في ذلك. فالفلسطينيون منقسمون على أنفسهم، ولا تجمعهم كلمة واحدة. فريق يريد الدولة بيضاء، وفريق معارض آخر يريدها خضراء. فريق يريد الدولة علمانية خالصة، وفريق يريدها دينية خالصة. فريق يريد الدولة من البحر إلى النهر، وفريق يرى ذلك استحالةً، وتعجيزاً، وانتظاراً لتحقيق معجزة الشيخ الراحل أحمد ياسين الأسطورية، الذي تنبأ عام 1988 بأن إسرائيل ستزول بعد أربعين عاماً؛ أي في عام 2028. وهذا الفريق ينتظر حلول هذا العام، لكي يقيم الدولة الفلسطينية من البحر إلى النهر. ولقد تمَّ اكتشاف هذه الحقائق كلها في محادثات كامب ديفيد عام 2000، بين كلينتون وباراك وعرفات، كما قرأناها في مذكرات بعض السياسيين الشهود على هذه المفاوضات.

-2 بما أن أميركا الآن هي القوة العظمى الوحيدة في العالم، وهي وحدها القادرة على إحداث التغييرات السياسية الجذرية في الأنظمة العربية، مقابل عتو الدكتاتوريات العربية القبلية والحزبية والعسكرية -ومثال ذلك العراق- فإنها فقدت مصداقية ذلك، وأصبح هذا الدور الحيوي معطلاً، فلا مكان، ولا مجال، ولا أمل في التغيير السياسي القريب في منطقة الشرق الأوسط، وسوف تبقى الدكتاتوريات العربية تتوالد وتتكاثر كالفِطر والأعشاب البرية من دون أن تجد من يقتلعها من «شروشها». فقد كان هذا حال العالم العربي منذ موجات الاستقلال في بداية النصف الثاني من القرن العشرين حتى الآن. والدليل الأكبر على ذلك ما حصل في العراق. فقد أحبطت، وشوّهت، وسوّدت الدكتاتوريات الحزبية والدينية تجربة «تحرير العراق». وجعلت عُرس العراق بزوال دكتاتورية البعث سرادقات للعزاء، وأفراح العراق أتراحاً، وتحوّل العراق إلى جنازات ومقابر، بدل أن يصبح بفعل انهيار الدكتاتورية احتفالات ومنابر. وسمحت لإرهابيي الأرض كلهم من عرب وعجم، بالعبور إلى العراق ودربتهم، ومدتهم بالسلاح والمال. وكان لهذا الدرس القاسي لأميركا في العراق، نتائجه السيئة على السياسة الخارجية الأميركية. ولكن بقي الفضل لأميركا بما تمَّ في العراق. فصحيح أن وجود أميركا العسكري في العراق، كان بمنزلة قضيب المغناطيس الذي جذب بُرادة حديد الإرهاب، و«نَكَشَ» أعشاش دبابير الإرهاب في المنطقة، ولكن كان ذلك من أجل القضاء على الإرهاب. فمن كان باستطاعته أن يواجه الإرهاب الديني والقومي في العراق، وفي خارج العراق، غير قوة عظمى كأميركا، رغم غضب القوميين والدينيين من هذه الحقيقة الواضحة، ورفضهم إياها؟

قلنا في البداية، إن صُنّاع السياسة الأميركية الحاكمين وغير الحاكمين، يتسابقون على نيل الرضا الإسرائيلي في واشنطن، وتل أبيب. ولكن هذا لا يعني أن الإعلام الأميركي بقضه وقضيضه، يؤيد السياسة الأميركية تجاه إسرائيل، على مرِّ الحقب. فهناك جزء كبير من الأكاديميين الأميركيين ومن الإعلاميين الأميركيين يلوم السياسة الأميركية، وينتقد نقداً سلبياً قاسياً السياسة الأميركية تجاه إسرائيل، ومنهم -على سبيل المثال لا الحصر- الأكاديميان البارزان ستيفن والت، الأستاذ في جامعة هارفارد، وجون مير شايمر، الأستاذ في جامعة شيكاغو. وهما مؤلفا كتاب «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية»، اللذان زارا إسرائيل قبل فترة، وحلّا ضيفين على الجماعة الإسرائيلية اليسارية المعروفة «غوش شالوم» (معسكر السلام) التي يرأسها الكاتب اليهودي والمعارض المعروف يوري أفنيري. ويقول منتقدو كتاب «اللوبي الإسرائيلي» إنه مُحمَّل بنبرة معادية للسامية، وأنه يصوّر اللوبي المساند لإسرائيل في الولايات المتحدة بصورة الجماعة ذات النفوذ الذي لا يُحدُّ، والتي تُلحق الضرر بالمصالح الأميركية والدولية. وقال ستيفن والت أحد المؤلفين للكتاب: «إن تقديم الدعم غير المشروط لإسرائيل لا يزيد من شعبية الولايات المتحدة حول العالم، كما أنه لا يجعل الأميركيين في الوطن أكثر أمناً». وأكد والت أن دور إسرائيل كدولة ديمقراطية لا يشكل سبباً كافياً يبرر الدعم السياسي والمالي القوي الذي تتلقاه. وأضاف يقول: «هناك الكثير من الديمقراطيات الأخرى في العالم، لكن أياً منها لا تتلقى مثل هذا المستوى من الدعم, ومن دون أي ضوابط».

وأضاف: «هذه السياسات الأميركية مضللة. وهي ليست مفيدة للولايات المتحدة، كما أنها لم تكن مفيدة لإسرائيل، ولن تكون مفيدة للشرق الأوسط ككل».

فهل ستقتل أميركا إسرائيل بمساعداتها ودعمها اللامحدود، وبدم بارد؟!

فالدلال الزائد يُفسد الحبيب ويُضيّعه، مما يعني خسران أميركا لكل من إسرائيل، وكذلك العالم العربي.

* كاتب أردني