ينطوي امتلاك السلاح النووي على مفارقة ويؤدي إليها. فهو ليس كسائر الأسلحة، يُتوخى لخوض حرب والانتصار فيها، بل لمنع وقوعها واتقائه. سلاح فريد من نوعه بين الأسلحة، ليس فقط لقدرته التدميرية الهائلة وغير المسبوقة في تاريخ ما ابتدعه الإنسان من أدوات التنازع والإيذاء، ولكن لأن قدرته التدميرية تلك هي، تحديداً، ما يشله وما يحول دون استخدامه. لذلك لم يحدث لامتلاك ذلك السلاح أن كان فاعلاً في حسم نزاع، فهو لم يُقِل للاتحاد السوفييتي السابق عثرة، عندما أزفت ساعته فانهار انهياره المعلوم، نظاماً وإمبراطورية، وهو لم يزد في عمر نظام التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا، وقد كان قوة نووية، لحظة كان التاريخ قد ضنّ بها عليه حُكما مبرماً، بل يصح ذلك حتى على المرة اليتيمة التي شهدت استخدام ذلك الضرب من السلاح، إذ يكاد يجمع المؤرخون على أن قصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي من قبل الولايات المتحدة، لم يكن يتطلبه أي اعتبار عسكري ملازم لمجريات الحرب العالمية الثانية، إذ كانت هزيمة اليابان قد حُمّ قضاؤها، بل كانت لذلك الاستخدام وظيفة الإعلان من ناحية والإنذار من ناحية أخرى، برسم القوة الصاعدة آنذاك، أي الإمبراطورية التي كان ستالين مقبلاً على إرسائها وعلى اقتطاع مجالها «الحيوي».

Ad

يكاد ذلك السلاح، والحالة هذه، يفقد جدارته بتلك التسمية، ما دام لا يفضي إلى انتصار، وطالما أن استخدامه متعذر. وهو لذلك يشذ عن منطق الحرب بما هي، كما يقول استشهاد شائع بكلاوسفيتز، «استمرار للسياسة بوسائل أخرى»، في أنه يلغي الحرب بمعنى من المعاني إذ يؤدي إلى الإفناء المتبادل، ويلغي معها السياسة التي لا تقوم إلا بامتناعه. إذ لا سياسة بعد دمار شاملٍ يُحِلّ يباباً ينهي التاريخ بأن ينهي البشر، عمراناً إن لم يكن جنساً. لذلك، فإن السلاح الأقصى ذاك، لا يقوم إلا على افتراض الأقصى لدى الطرف المقابل، مالكِه الخصم: جنوناً أو نزوعاً انتحارياً، ناجمين عن تطرّف إيديولوجي أو عن «ثقافة» بعينها يُصار إلى إعلانها مارقةً، لسمات فيها جوهرية تكوينية. وهكذا، إذا كانت كل استراتيجية أو عقيدة عسكرية تقليدية تقوم على افتراض عقلانية ما لدى الطرف المقابل، فإن تلك المتعلقة بالسلاح النووي، تقوم على افتراض لا عقلانيته وتقيس مخاطره المحتملة بمقياسها، إذ ليس من حجة، في نهاية المطاف، ترفعها الولايات المتحدة ضد تسلح كوريا الشمالية أو إيران بالسلاح النووي، عدا عن تطرف نظاميهما، يصمهما، في ذلك المضمار، بما لا يصم إسرائيل على سبيل المثال الصارخ. لذلك، إذا ما عُدّ السلاح النووي من المعدات ومن الوسائل العسكرية، فهو قد يكون، في العمق، أقرب إلى التحصينات، أو هو تطوير لفكرتها، إذ يقيم، بالنظر إلى ما يُنسب إليه من فضيلة «الردع»، أسواراً، غير مادية، افتراضية بمعنى من المعاني، ولكنها بالغة الفعالية، وإن اختلفت عن نظيرتها التقليدية في أنها ليست محض سلبية، تَقنع بوظيفة دفاعية أولية هي صدّ العدو، بل يمكن تفعيلها هجوماً مضاداً، كاسحاً مدمّراً لا يُبقي ولا يذر. ولأن حصول مثل ذلك في حكم المتعذر، لأسباب سبقت الإشارة إليها ولسواها، فإن السلاح النووي، إذ يردع الحرب من دون أن ينهي العداء، يكتسب سمة إضافية لتلك الدفاعية، طالما أنه يرسي هدنة ويثبّتها، بما قد لا تفي العهود والمواثيق والاتفاقات في النهوض به، على ما دلّت تجربة أوروبا خلال الحرب الباردة، إذ لم يسبق للقارة القديمة، طوال تاريخها المديد، أن نعمت بالسلام بقدر ما قُيّض لها في ظل الاستقطاب الثنائي الأميركي- السوفييتي وما كان قائماً بين القوتين تينك من ابتزاز بالدمار متبادل. صحيح أن الوضع ذاك جمّد نصاباً، دفعت ثمنه باهظاً شعوب أوروبا الشرقية على وجه الخصوص، لكنه أثمر سلاماً مستداماً. لم يكن من بُد ومن مناص من طول المقدّمة أعلاه للخلوص إلى سؤال حول السلاح النووي الإيراني، في صورة التوصل إلى حيازته، وحول جدواه، إن كانت له من جدوى، للقضية الفلسطينية، ما دامت الجمهورية الإسلامية اختارت أن تلتمس لجهدها النووي شرعية في تلك القضية وما انفكت، على لسان رئيسها محمود أحمدي نجاد، تهدد الدولة العبرية بويلات الشطب والإبادة وما دامت تلك الدعوى تجد هوىً بين جمهور المنطقة العربية ولدى بعض نخبها.

ربما تعين التنويه بدءاً أن الهاجس الإسرائيلي، إن كان يبدو منوط الأولوية لدى إيران، وعلى ما يوحي خطابها، إلا أن الأولوية تلك تتعلق، في المقام الأول، بإضفاء الشرعية على مسعاها النووي وبتسويغه بين «جماهير» العالم الإسلامي، في حين أن الأولوية الحقيقية والفعلية ربما وقعت على صعيد آخر، هو ذلك المذهبي، بحيث ربما أمكن القول إن إيران ترفع الصوت ضد إسرائيل، ولكنها تهجس بقلق آخر، تراه راهناً أكثر، لأنه أكثر ضلوعاً في مجالها الإقليمي المباشر من ناحية ولأنه يقع في لب التوترات التي تخترق العالم الإسلامي، ممثلة في الصراع الشيعي- السني، من وجه آخر، هو ذلك المتجسد في القنبلة النووية الباكستانية، تلك التي ربما نظرت إليها طهران على أنها، في التعريف الأول، قنبلة نووية سنية.

لكن بصرف النظر عن ذلك الجانب، الذي يجب أن يبقى مع ذلك ماثلاً في الذهن، فإن أقصى ما قد تبلغه إيران من جانب الدولة العبرية، إن هي فازت بناصية أسلحة الدمار الشامل، هو التوصل إلى توازن رعب كلاسيكي بين الطرفين، مانع بصفته تلك لأي مواجهة، فضلا عن دحر إسرائيل أو إزالتها، خصوصاً أن التفاوت في ميزان القوة النووية سيبقى على الأرجح وإلى أمد طويل، إلى مصلحة الدولة العبرية التي عوضت عن ضيق مساحتها الترابية بنشر سلاحها النووي في غواصات تجوب البحار، هذا فضلا عن الحماية، وهي بطبيعة الحال نووية أيضاً، التي تحظى بها من العالم الغربي.

كل ذلك للقول، إنه لا يُتوقع للسلاح النووي الإيراني أن يكون ذا مفعول على حل القضية الفلسطينية، إن لم يكن من عوامل تعقيد ذلك الحلّ. فهو إن أرسى «هدنة» من قبيل ما سبقت الإشارة إليه، من شأنه أن يؤدي إلى تجميد الصراع، الذي لا يمكن لتجميده في الظرف الراهن والمنظور إلا أن يكون لغير مصلحة الفلسطينيين، خصوصاً إذا ما أفلحت الدولة العبرية في إلحاق المقاومة الفلسطينية بإيران واعتبارها بنداً في أجندتها، فتفلح مجدداً في تحويل قضية الفلسطينيين من قضية تتعلق بتدارك مظلمة فادحة، وإن تداركاً جزئياً، إلى جزء من نصاب إقليمي عويص لا يُحلّ إلا بتغييره.

لكل ذلك، وعلى العكس من اعتقاد شائع، يمليه حس الضغينة لا إعمال العقل، لا يبدو تحوّل إيران إلى قوة نووية بالأمر المفيد للقضية الفلسطينية، إلا إذا ما وُجدت حجج ترجع العكس، غابت عنا فأغفلناها.

* كاتب تونسي