هو عبد الله بن الحسين بن عبد الخالق أبي محمد الشينبي الدمير المالكي المعروف بابن شكر. ولد بقريته دميرة في تاسع من صفر سنة 548هـ، وكفله زوج أمه ونوه به عند أمراء الدولة الأيوبية فترقى في خدمتهم. وقد صعد عبد الله السلم سريعاً بفضل ذكائه واجتهاده ، بعد أن نال حظاً وافراً من التعليم الديني، فظهر له مؤلف في الفقه على مذهب مالك وكان كل من من حفظه نال منه حظاً وافراً . ومع ذلك إن بعض خبثاء عصره يرون أنه ألف كتابه هذا ليس عن ورع ولكن بغرض التشبه بالوزير العباسي الشهير عون الدين بن هبيرة.
وبغض النظر عن نوايا رجلنا الذي اشتهر باسم "الصاحب صفي الدين عبد الله بن شكر فأنه ولج باب السلطة وهو بعد في الثلاثينات من عمره، عندما التحق بخدمة الأمير الأيوبي أبي بكر بن أيوب أخي السلطان الناصر صلاح الدين يوسف الأيوبي. وما لبث أن أصبح الصاحب وزيراً للعادل الأيوبي ، ومن هذا الوقت عام 596هـ حفر الرجل إسمه في ذاكرة التاريخ بأحرف من نار .. ودم. وضع فلاح دميرة نصب عينيه أن يدخل التاريخ من كل أبوابه، وتلك كانت عقدة حياته فهو أولاً قد أراد التشبه في محاضراته بالوزير إبن هبيرة وفي ترسله بالقاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانئ أشهر شخصيات العصر الأيوبي الأول ليذكر في صحائفه أنه جمع بين مزايا "الأثنين” لم يكن فيه أهلية هذا الا انه كان من دهاة الرجال. وطيلة حياته كان شعاره ، وكذلك شعار أل شكر جميعهم ، هو "إذا كنت دقماقاً فلا تكن وتدا” ويعملون جميعاً بهذا القول كما يعمل بالأقوال الإلهية ، وكان ابن شكر يردد شعاره هذا في اليوم عدة مرات ويجعله حجة عند انتقامه. وكان الصاحب لا يرضي لأعدائه من الرؤساء بدون الهلاك والاستئصال ولا يرحم أحداً إذا انتقم منه ولا يبالي بعاقبه ، وإذا ما انتقم من عدو له ، ظن أنه لم ينتقم فيعود للانتقام ، ولا ينام عن عدوه ولا يقبل معذرة أحد وقد فر من وجهة كبار رجال الدولة بعد أن أستولي على أموالهم ، ومن هؤلاء القاضي الأشرف بن الفاضل والقاضي علم الدين إسماعيل بن أبي الحجاج صاحب ديوان الجيش والقاضي الأسعد بن مماتي صاحب ديوان المال . ولأعجب بعد ذلك أن تذكر كتب التاريخ عنه أنه " الرجل الذي إنقاد له على الرغم والرضا الجمهور وأخمد جمرات الرجال وأضرم رماداً لم يخطر إيقاده على بال " . وثالثة الأثافي أن هذا الجبار العنيد رام إذلال الكافة وإهدار كرامتهم، وكان يتحسر دائماً لأن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني قد مات قبل أن تتمرغ شيبته على عتباته . ويروي عن تكبره الزائد أن الرؤساء كانت تقف على بابه من نصف الليل ومعهم المشاعل والشمع وعند الصباح يركب فلا يراهم ولا يرونه لأنه إما أن يرفع رأسه إلى السماء تيهأ وإما أن يعرج إلى طريق غير التي هم بها وإما أن يأمر الجنادرة التي في ركابه بضرب الناس وطردهم من طريقه ويكون الرجل قد وقف على بابه طول الليل إما من أوله أو من نصفه بغلمائه ودوابه فيطرد عنه ولا يراه. إلا أنه كان مع ذلك مقدراً لعواقب ما يفعل بالناس حتى أنه كثيراً ما أنشد: " إذا حقرت أمراً فأحذر عدواته من يزرع الشوك لم يحصد به عنباً " وعلى أية حال فقد أظهر رجلنا تجلداً يحسد عليه فيما ألم به من نوازل المرض حتى عد في نظر معاصريه من الجبابرة العتاة . فأخذه مرة مرض من حمى وحدث به النافض (الرعشة) وهو في مجلس السلطان ينفذ الأشغال فما تأثر ولا ألقي جنبه إلى الأرض حتى ذهبت. وحدث ذات مرة أنه أصيب بدوسنتاريا حادة وأزمنت معه حتى يئس منه الأطباء وأيقنوا موته ، واشتد به الوجع وأشرف على الهلاك وعندئذ تذكر أن في حبسه عشرة من وجوه الكتاب ، فبعث ليستدعيهم إليه. وقد يعتقد البعض أنه طلبهم في هزيع الليل ليطلق سراحهم تقرباً إلى الله تعالى ولكن الأمر كان على غير هذا الاعتقاد. فما أن مثل العشرة أمامه حتى ابتدرهم قائلاً " أنتم في راحة وأنا في الألم ،كلا والله” وأمر بألات التعذيب فأحضرت ووضع المساكين في المعاصير(تعصر بها الركب والمفاصل عصراً ) وأخذ في تعذيبهم” فصاروا يصرخون من العذاب وهو يصرخ من الألم طول الليل غلى الصبح” وبعد ثلاثة أيام من هذه المشاركة الوجدانية القسرية شفى إبن شكر من مرضه!!. وحرى بالأطباء في عصرنا أن يلتفتوا إلى هذه الطريقة المبتكرة من العلاج بالمشاركة الوجدانية، فلعلها تكون الحسنة الوحيدة التي خلفها إبن شكر في صحائفه. ورغم أن إبن شكر الذي تلقب بالصاحب ، دون أن يكون له صاحب قد غادر الدنيا وهو في كرسى الوزارة معززاً مكرماً ومهاباً إلا أن ذلك لم يحل دون أن ينكب في أولاده تاج الدين يوسف وعز الدين محمد ، إذ قبض عليهما الملك الكامل وحبسهما وصادر جميع ممتلكات أبيهما ، كما نكب في مدرسته التي خصصها لتدريس المذهب المالكي وسماها بالمدرسة الصاحبية ، فقد تهدمت سريعاً وزال كل أثر لها.
توابل
الصاحب.. بلا أصحاب
12-09-2008