«الوظائف العامة غير المحصنة وعدم إمكان الوصول إليها بأسلوب موضوعي، جعلا كل شيء مسيّساً، من درجة الحارس إلى أعلى المناصب، فالوصول إلى الوظائف والبقاء والترقي فيها تحكمها أسباب سياسية... فلم تعد الكفاءة هي المقياس الحقيقي، بل الانتماء والرضا السياسي»، جانب من الحوار مع وزير التجارة الأسبق علي الموسى، بشأن الفساد الوظيفي والإداري في الكويت.لماذا لم يعد للوظيفة حرمة في عرف الناس في الوقت الحاضر؟ وما أسباب تمارض الموظفين والتغيب في القطاع العام؟ وكذلك أسباب تفشي الفساد الإداري في الدوائر الحكومية، وعلاقة الفساد السياسي بالإداري، وكيف نجنب التنمية وشعاراتها المرفوعة من كل ذلك؟.... أسئلة طرحتها «الجريدة» على وزير التجارة الأسبق ورئيس مجلس إدارة مجموعة الأوراق المالية علي الموسى.
«يقال إن كل رخيص... بخيس، وبتقريب الصورة يتضح لنا أن كل أمر مبذول ويسهل الوصول إليه يكون رخيصا»، هذا ما بدأ به وزير التجارة الأسبق علي الموسى في رده على زوال حرمة الوظيفة في عرف الناس في الوقت الحاضر، وقال: «لا يفترض بالوظيفة الحكومية أن تكون ميسورة الحصول والوصول إليها، خصوصا المناصب العليا منها، حيث أصبح الحصول على أكثرها يتم عن طريق الواسطة الناتجة في معظمها عن انتماء إلى تيارات أو فئات معينة، وبذلك أصبحت وظائف مبذولة، ونأخذ هنا مثالا آخر هو الجامعات، فهناك جامعة يسهل الالتحاق فيها ومتاحة للجميع، كما أن هناك جامعة يصعب الالتحاق فيها ولا تجدي الواسطة في تسهيل الالتحاق فيها، والجامعة الأخيرة لا تعرف بقوتها من اسمها فقط، بل من فئة الطلبة ومخرجاتها التعليمة، وذلك ما ينطبق على الوظائف لدينا».
انهيار الوظيفة
سهولة الوصول إلى المناصب في القطاع العام واستخدام الواسطة في ذلك برأي علي الموسى، هو «بداية انهيار الوظيفة العامة في الكويت، كما قام العمل السياسي في الكويت بتحطيم ما تبقى منها، فأصبح من يعمل فيها يتهم بسهوله بالتعاطي والرشوة، وذلك ناتج في أساسه إلى لغة الخطاب السياسي الدارج في البلد، فقد ذكرت اللائحة الداخلية انه لا يجوز اتهام أي شخص تحت قبة البرلمان ما لم يتم صدور حكم نهائي فيه، فبالتالي أصبحت لغة التعميم ميسورة من دون دفاع، هذا رغم وجود السيئ منهم، لكن ذلك لا يعني أن جميع العناصر الحكومية سيئة، فالتعامل مع الوظيفة الحكومية ضعف في أعين الناس، وأكملتها لغة الخطاب السياسي في تعاملها معه، وبذلك انهوا احترام الوظيفة العامة وأصبحت ضعيفة».
وأضاف الموسى: «ومن ينتمي إلى تيار، تراه يضع تياره على رأس أولوياته، بينما الأصل في الخدمة العامة - في كل مكان في العالم - هو الاستقرار والحماية من الهجوم والتدخلات السياسية، فأصبح تحطيم الوزراء أمرا سهلا للغاية، كذلك الإدارة الحكومية، وكل وزير يأتي وبحجة التدوير، تغيب عنه أن منظومته جزء من نظام عام كبير، ويعتقد انها أقرب إلى مزرعة أو إقطاعية يفعل فيها ما يريد، أما أعذاره فكثيرة مثل التدوير والتطوير، وبذلك نكون قد حطمنا ما يمكن أن يسمى بالإدارة العامة المدنية والوظيفة العامة في الكويت، وهذا ما ينتج عنه إنهاء الدولة».
كل شيء مسيّس
وعن تفشي الفساد الإداري داخل الدوائر الحكومية، علل الموسى الأسباب بـ«عدم تحصين الوظائف العامة، وعدم جعل الوصول إليها بأسلوب موضوعي - كما هو حاصل في دول العالم - جعل كل شيء مسيّس، من درجه الحارس إلى أعلى المناصب، فالوصول إلى الوظائف والبقاء والترقي فيها تحكمها أسباب سياسية، فلم تعد الكفاءة هي المقياس الحقيقي، بل الانتماء والرضا السياسي، وجانب من المهنية، كما هو معروف، هو الالتزام بقواعد معينة مثل الشفافية والأمانة... الخ، لكن الوصول أصبح غير مرتبط بهذه الجوانب المهنية.
والفساد لا يكون دائما مقابل مال أو الحصول على منافع مادية مباشرة، بل هو أيضا من اجل مصالح تخدمك، وترضي بها أصدقاءك أو طائفتك أو تيارك من دون الالتفات إلى القواعد العامة والقانون ومبدأ تكافؤ الفرص، ونحن هيأنا - من حيث لا ندري - بيئة صالحة ليستفحل الفساد فيها، ورغم أنه لا توجد دولة في العالم لا يوجد فيها فساد، إلا أن الفرق بيننا وبينهم، انه حين يتم اكتشاف الفئة الفاسدة لديهم فالقانون يأخذ مجراه، أما نحن فنعلن عن وجود فساد، ونعلن عن الإصلاح لكننا لا نفعل شيئا، وفي حالات يترقى المفسدون لدينا إلى مناصب عليا».
جدية الدولة
وبشأن ضرورة تجنيب التنمية هذا الفساد، قال الموسى «على الرغم من المرارة التي أتحدث بها، إلا انني اشعر بالتفاؤل خصوصا بعد اشتراك الشباب في تجمعات وجمعيات تحمل طابعا مهنيا فنيا، لتغيير بيئة العمل، كذلك مساهمة المنظمات الدولية في محاربة هذا الفساد، لكن للأسف لا نرى جدية الدولة في محاربته، وكل ما نراه هو جهود هذه التنظيمات التي تحاول أن تهيئ بيئة مختلفة نظيفة، وأهم شيء في محاربة الفساد هو الاستمرار والمطالبة بدولة القانون والمؤسسات، كذلك استخدام الأساليب الايجابية مثل الشفافية وإعلان الأنظمة، والجهاز الحكومي يحتاج إلى بناء وبث الروح الايجابية والتعامل الصحيح مع الناس، فيما نشر المزيد من الشكوك ولغة الخطاب السلبية يدفعان إلى إبعاد العناصر الجيدة عن إدارات معينة، بعد أن أصبحت سمعة هذه الإدارات سيئة، أو من يعمل بجد تراه ينزوي، فهناك الكثير ممن لا يرغب في تسلّم هذه الوظائف داخل الجهاز الحكومي».
البطالة والتنمية
وأضاف الموسى: «بلغ الوضع لدينا مستوى متقدما من الخطورة، وهو العدو الأول لإحداث التنمية في البلد، فلا توجد تنمية حقيقية تستشري أنواع الفساد في إدارتها، فالتكلفة تصبح عالية وكل شيء يتأخر، والإصلاح في مجمله يحتاج إلى برنامج، وليس إزالة شخصية من منصب، فالإصلاح هو إصلاح أنظمة وسياسيات وإجراءات ومحاسبة، وأيضا إعطاء كل ذي حق حقه، و(العدل أساس الملك)، والدولة التي تُشترى فيها السلطات أو تُباع عليها السلام، والسلطة المعنية تبدأ من المرؤوس على الموظفين الصغار، فان كان كفئا وصالحا فسيؤدي موظفوه، وان كان فاسدا فسيعم الفساد على الإقدام، وسيستقر في قناعات الناس والموظفين الصغار».
وعن تقارير البطالة ودور القطاعين العام والخاص فيها، قال رئيس مجلس إدارة مجموعة الأوراق المالية: «البطالة نوعان، فهناك البطالة المُقَنّعة وهي ما تحصل في الوظائف الحكومية، حين يتسلّم الموظفون رواتبهم من دون أن يؤدوا عمل، وذلك يعود إلى فائض في التوظيف حين يحتاج المكان إلى أربعه موظفين ويتم توظيف عشرة في نفس المكان، وهم في حقيقة الأمر لا يؤدون لكنهم في النهاية موظفون يتسلمون رواتبهم، وهذا الأمر موجود وليس بمستجد، ومن الممكن أن يتزايد في ظل مخرجاتنا التعليمية الكبيرة، والحكومة مضطرة أن تستوعب ما تقدر عليه، أما النوع الآخر فهو البطالة المستَتِرة أو الدائمة، فهناك فئات تتخرج ولا تجد عملا مرضيا في القطاعين الخاص أو العام».
وعن استيعاب القطاع الخاص هذه الفئة، قال الموسى: «هو أمر صعب، لأن القطاع الخاص أساسا لا يشكل الكثير في اقتصاد البلد، فالحكومة تحتكر %75 من الاقتصاد، وليس لدى القطاع الخاص سوى %25، فكيف يستطيع استيعابهم، ولو تحدثنا عن موظفي قطاع البنوك، فسنجدهم يتراوحون بين عشرة واثني عشر ألف موظف، في حين ان مخرجات الدولة السنوية من المؤهلات قد تصل إلى هذا العدد، وان كان القطاع الخاص - نفسه - يبحث عن عمل، والحكومة لا تعطيه فرصة ليزداد عمله، فكيف يوظف المؤهلات ويساهم في القضاء على البطالة؟».
وأضاف الموسى: «البطالة موجودة وهي خطر يهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، ولا يمكن التساهل فيه، وللأسف لم تكن المعالجة موفقه حين أوكل العلاج لديوان الخدمة المدنية، فالأخير جهاز إداري، ومشكلة البطالة مشكلة اقتصادية وليست إدارية، وتحتاج إلى سياسات مرتبطة أيضا بالتعليم، فماذا يستطيع هذا الجهاز الإداري أن يفعل غير توزيع الوظائف؟ فالعلاج هنا ظاهري فقط».