في كتاب «حيوات مكتوبة» يستعرض الكاتب الإسباني «خافيير مارياس» الملامح الشخصية لما يزيد على خمسة وعشرين كاتبا وكاتبة من مشاهير المبدعين الغربيين في مجالي الرواية والقصة.

Ad

وهو، في طريقة تناوله المتسمة بالإيجاز والعمق والطرافة، يبدي لنا جوانب خفية من غرابة أطوار بعض الكتاب، إضافة إلى غرابة دواعي شهرتهم، وعلى رأس هؤلاء يقف الكاتب الإيرلندي «جيمس جويس» صاحب الرواية الشهيرة «يوليسيس».

ففي ما يتعلق بصورة جويس الشخصية، اعتاد الناس أن يقولوا إنه كان يبدو حزينا ومتعبا، أما هو فقد وصف نفسه في إحدى المناسبات بقوله إنه «رجل غيور، متوحد، تعيس، ومعتد بنفسه»، وهو، بالطبع، قد أعطى هذا الوصف عن نفسه بصفة سرية وخاصة جدا، في إحدى رسائله لزوجته «نورا» التي كان يأتمنها على أسراره واعترافاته الجريئة أكثر من أي إنسان آخر. أما هي فقد اختزلت وصف زوجها، ذات مرة، بكلمة واحدة لا غير: «مُتعصّب»!

لكن مؤلف «حيوات مكتوبة» يطلعنا على معلومات مفصلة أكثر عن شخصية جويس، فنعرف أنه كان في شبابه دائم التردد على بيوت المومسات، وأنه كان طول حياته يتناول الكحول بإفراط، وأنه لم يكن رجلا اجتماعيا، وأن ثرثرته على الورق يقابلها صمت يكاد يكون مطبقا في واقع الحياة، حتى انه في الجلسات العامة كان لا يملك من وسائل المشاركة في أي نقاش سوى قول كلمة واحدة لا تتعدى «نعم» أو «لا» لكنه، على النقيض من ذلك، كان طلق اللسان في الجلسات الخاصة والحميمة، غير أنه حتى في مثل هذه الحالات كان يتكلم وكأنه لا يتكلم، لأنه كان يتحدث غالبا في موضوعات لاهوتية، أو كان يشرع في إلقاء بعض محفوظاته من الإيطالية بصوت جهوري، الأمر الذي لم يكن ليشكل أهمية أو متعة لأي شخص آخر من جلسائه.

وواضح أن جويس قد عانى في حياته قدرا كبيرا من المحن، منها، على سبيل المثال، موت خمسة من إخوته التسعة وهم في زهرة العمر، لكنه، برغم ما عاناه كله لم يكن ليُظهر مشاعره، حتى أن أخاه «ستانسلاس» قد أوجز ذات مرة وصف طبيعة مشاعر أخيه بقوله «إن التعاسة بالنسبة لجيمس جويس كانت بمنزلة عيب أو نقيصة»، ولذلك فإنه كان على الدوام باردا ومنعزلا، وبرغم أنه لم يكن كذلك تماما مع أقرب الناس إليه، فإنه تصرف بالطريقة نفسها عندما اكتشف، بعد وفاة والدته، حزمة من الرسائل التي كان قد كتبها والده لها قبل زواجهما.

يقول «ستانسلاس» إن جويس قد أنفق ساعات العصر كلها في قراءة تلك الرسائل، دون أدنى شعور بوخز الضمير، وكأنه طبيب أو محام في مواجهة حالة صحية أو قضية قانونية!

وعند انتهائه من قراءتها سأله عما وجده فيها، فـأجاب بشكل قاطع وفظ: «لا شيء».

فكر ستانسلاس بحرقة بالغة: «هذه الرسائل «لا شيء» بالنسبة الى هذا الشاعر الشاب، لكنها بالتأكيد قد كانت تعني شيئا كبيرا بالنسبة الى المرأة التي احتفظت بها طول تلك الأعوام التي أمضتها مهملة وفقيرة»!

وفي النهاية فإن ستانسلاس قام بإحراق تلك الرسائل دون أن يقرأها!

ويشير «مارياس» إلى أن جويس كان مؤمنا بالخرافات بصورة مرضية، ويذكر أنه كان جالسا، مرة، في إحدى الخانات برفقة صديق، عندما أشار الأخير إلى أنه رأى فأرا يقفز فوق السلم، فكانت ردة فعل جويس بعيدة تماما عن الوقار، إذ انه تساءل بفزع: «أين؟ أين؟ إن هذه علامة على سوء الطالع»... وبعد ثوان من ترديده هذه الكلمات أغمي عليه من شدة الرعب!

وبعيداً عما يذكره «مارياس» عن صورة جويس الشخصية، فالمعلوم لدينا، على الصعيد الإبداعي، أن أهم أعمال جويس لا تتجاوز عدّاً أصابع اليد الواحدة، وأن «يوليسيس» و«أهالي دبلن» هما الأبرز بين تلك الأعمال، وإذا كانت الأخيرة، وهي عبارة عن مجموعة قصص أو صور من الحياة في مدينة دبلن، مما يمكن أن يقرأ بيسر وبمتعة أيضا، فإن رواية «يوليسيس» التي تقع في نحو ألف صفحة، وتنعقد على رصد لجولة يقوم بها مروج إعلانات يهودي الأصل في أنحاء مدينة دبلن خلال أربع وعشرين ساعة فقط، قد كانت عملا معقدا وصعبا إلى أبعد حد، لكنها مع ذلك، كانت الأشهر بين أعمال جويس والأعمال الأدبية جميعها في العالم، برغم أنها لم تحظ بكثير من القراء، وبرغم أن معظم الذين قرأوها لم يستطيعوا أن يلتقطوا منها طرف خيط يمكن أن يقنعنا بأنهم فهموها حقا، وفي هذا السياق يذهب الكاتب الفرنسي «بيير بايار» إلى القول إن الكثيرين يتحدثون عن «يوليسيس» على الرغم من أنهم لم يستطعيوا قراءتها أو فهمها، ويضرب مثلا على ذلك بنفسه!

ولعل شهرة «يوليسيس» قد تضخمت لهذا السبب، فهي شبيهة بالعنقاء التي يكثر من يتحدثون عنها لكن يندر أو ينعدم من يزعم أنه رآها بالفعل!

أكانت «يوليسيس» رواية.. أم ماذا؟!

إنها أشبه ما تكون بصندوق جمع فيه صاحبه مخلفات متنوعة، حتى إذا فتحه أحد يوما فإن الميزة الكبرى التي سيجدها في تلك المخلفات هي رائحة القدم. فهي في الوقت الذي تفتقد فيه حبكة الرواية وعناصر الإثارة والتشويق، تكاد تكون خليطا من الأجناس الأدبية المختلفة والفنية الأخرى، وسواء شرع المرء بقراءتها من البداية أو المنتصف أو النهاية فإنه لن يشعر بافتقاد الترابط، وذلك لأن الترابط غير موجود أصلا، وسيظل في الحالات كلها عالقا في المتاهة نفسها!

هناك أستاذ رياضيات أميركي بجامعة شمال أيوا اسمه «دوغلاس شو» له ولع خاص بقراءة الكتب واستعراضها في مدونته الشخصية على الإنترنت، وهو قد اعتاد على وضع نجوم حمراء لتقويم الأعمال التي قرأها، فنجمة حمراء واحدة تعني أنه ممتاز، لكنه عند قراءته «يوليسيس» بعد تردد طويل، لم يجد في نجومه الثلاث ما يشفي غليله في التعبير عن تعبه وخيبته وغيظه، فاختار أن يبتكر لها دائرة زرقاء خاصة بها وحدها من دون سائر الكتب، وهو في شرحه لمعنى تلك الدائرة قال إنها تعبير عن أني عند قراءة رواية «يوليسيس» شعرت بأن مؤلفها قد انتزع ضلعا من قفصي الصدري، ولم يكتف بذلك بل غرز ضلعي في بطني، ثم أنه نزعه من بطني ودسه في فمي وأجبرني على أن آكله! إنه تعبير غليظ جدا برغم طرافته... لكن من يلومه؟ فحتى «نورا» زوجة جويس القريبة منه تماما لم تزعج نفسها إطلاقا بقراءة «يوليسيس»!

لكن ماذا كان سيصيب جويس نفسه لو أنه قرأ مثل هذا التقويم؟ من المؤكد أنه كان سيسقط ميتا، فبرغم «وضعية» العبقري التي كان يتخذها ويحاول إقناع الآخرين بها، كان معروفا عن جويس انتظاره لفتة القارئ إليه بما يشبه الاستجداء، فعند صدور «يوليسيس» بعد صعوبات هائلة في العثور على ناشر يوافق على طبعها، عمل جويس كل ما في وسعه من أجل إقناع الناس بأهميتها، حتى انه شوهد في إحدى المناسبات يغلف بنفسه نسخة منها لواحد من زبائن إحدى المكتبات الكبرى، كما انه كان ينتظر بقلق وترقب أي ذكر أو عرض لعمله في الصحافة، ويحرص على أن يبعث رسالة امتنان لأي شخص يبدو أنه اهتم بذكر كتابه، وعندما ظهرت روايته «يقظة فينيغان» بعد وقت طويل من ذلك، ولاقت استقبالا فاترا، فإنه شعر بجرح عميق في نفسه، وظل طول العامين الآخيرين من حياته يحاول جاهدا أن يبرأ من هذا الجرح!

ليرقد «جويس» بسلام، فشهرته التي قامت سوف لن تقعد أبدا، وحسبه أن «يوليسيس» ذات الدائرة الزرقاء هي السبب الأعظم وراء هذه الشهرة، حتى أن المعجبين به صاروا يحتفلون سنويا بذكرى تاريخ جولة بطل الرواية «ليوبولد بلوم» يوم 16 يونيو من عام 1904، ويطلقون عليه «بلومز داي» أو «يوم بلوم»!

ومما يذكر في هذا الشأن أن موقع هيئة الإذاعة البريطانية على الإنترنت، كان قد احتفل، قبل أربعة أعوام، على طريقته الخاصة، بالذكرى السنوية المئة لذلك اليوم، حيث قام «نيل سميث» بتلخيص تلك الرواية المعقدة ذات الألف صفحة.. في صفحة واحدة فقط، باسلوب متسم بالسخرية الحادة، ثم دعا القراء إلى عرض آرائهم أو ملخصاتهم للرواية، فتلقى الموقع ما يقرب من مئة وستين تعليقا شكلت بمجموعها مهرجانا للضحك... وذلك ما يستحق الإحاطة به في مساحة خاصة.

* شاعر عراقي

تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية