السلطان حسن.. خرج من القلعة ولم يعد!

نشر في 12-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 12-09-2008 | 00:00
بعد حياة لم تزد على ثلاثين سنة، قضاها في صراعات ومواجهات دامية، مع أمراء المماليك، خرج السلطان حسن من القلعة ليلا، متخفيا في ملابس الأعراب، يلتمس لنفسه النجاة، واختفى لم يعرف أحد عنه أي شيء، واحتار المؤرخون على مدى قرون عديدة.. أين ذهب هذا السلطان؟.. هل قتل؟ ومن قتله؟.. وأين جثته؟.. ورغم مرور عدة قرون على اختفائه إلا أن اختفاءه مازال لغزا محيرا.

لقد أقام السلطان حسن لنفسه مقبرة عظيمة، وأقام فوقها قبة عالية بارتفاع 48 مترا، وحرص على تجميلها بالزخارف والنقوش، وحدد في وصيته أن يقوم 60 مقرئا بتلاوة القرآن الكريم على روحه عند وفاته، وقرر المكافآت اللازمة لهم، كما قرر مكافأة لمن يدعو له بالرحمة عقب الصلاة، ومازالت المقبرة رغم مرور أكثر من سبعة قرون خالية لم يدخلها بانيها الذي لا يعرف أحد مصيره حتى الآن!!

كان جده سلطانا على مصر، وكان أبوه سلطانا أيضا، وكان أخوته الستة الذين يسبقونه في العمر من سلاطين مصر، ثم جاء الدور عليه، وبالرغم من أن نظام وراثة الحكم لم يكن متبعا في دولة المماليك حيث كان الحكم للأقوى، إلا أن هذه الأسرة قد توارثت الحكم قرابة المائة عام أو تزيد.. إنها أسرة السلطان قلاوون.

كان السلطان حسن صبيا في الثالثة عشرة من عمره عندما أتى به الأمراء وأجلسوه على العرش، وقالوا له: أنت السلطان!!، وكان ذلك في أعقاب مقتل أخيه السلطان المظفر حاجي، وكان ذلك في 14 من شهر رمضان عام 748هـ.

في عهده ظهر وباء الطاعون في مصر، ويقول ابن إياس إنه كان يخرج من القاهرة كل يوم نحو 20 ألف جنازة، وقد تم حصر من مات بمرض الطاعون في مدة شهري شعبان ورمضان سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فكان نحو تسمعائة ألف إنسان، من رجال ونساء وكبار وصغار، وجوار وعبيد، ولم يسمع بمثل هذا الطاعون فيما تقدم من الطواعين المشهورة.

ويضيف ابن إياس: وصنعت الناس التوابيت والدكك لتغسيل الموتى حسبة لوجه الله تعالى بغير أجر، وحفرت الحفائر وألقيت فيها الموتى، فكانت الحفرة الواحدة يدفن فيها الثلاثون والأربعون وأكثر، وانتشر الوباء ببلاد الشرق جميعها.

لما بلغ السلطان حسن سن الرشد ـ وكانت 16 سنة ـ جمع الأمراء والقضاة ليثبتوا أنه قد بلغ سن الرشد، وأنه سيتولى بنفسه تدبير أمور الدولة، وكان أول شيء فعله هو القبض على عدد من أمراء المماليك، وأودعهم بالسجون، وكان لهذا التصرف أثره السييء، فأخذ كل الأمراء يتوجسون خيفة منه، ويتوقعون أن تدور الدائرة عليهم، وبدأو يعدون مؤامرة للانقلاب عليه، ووضعوا خطة للقبض عليه فى القلعة، وتولى الأمير صرغمتش مهمة اعتقاله، فصعد للقلعة وبحث عنه فوجده في قصر الحريم، فقبض عليه، وأودع السجن، وتولى من بعده أخيه السلطان الصالح صلاح الدين، وكان ذلك عام 1351م.

بقي السلطان حسن في السجن ثلاث سنوات وثلاثة أشهر ونصف الشهر، ثم أخرجه الأمير صرغمتش والأمير شيخون من السجن، وولياه السلطنة من جديد عام 1354م، بعدما أزاحا أخيه السلطان الصالح، مقابل أن يكون لهما الدور الأساسي في إدارة حكم البلاد.

عاد السلطان حسن للحكم، ولجأ إلى مهادنة الأميرين اللذين أتيا به من غياهب السجن إلى كرسي السلطنة، ثم حدث أن قتل الأمير شيخون على يد أحد المماليك لنزاع شخصي بينهما، وأمر السلطان بأن يقتص من القاتل، وأن يتم تسميره على لوح خشب.

وكان موت شيخون قد أزاح خصما ثقيلا عن السلطان حسن، ولم يعد ينازع السلطان سوى الأمير صرغمتش، الذي اتسع نفوذه وتسلطه بعد انفراده بتدبير شؤون الدولة.

كان طموح صرغمتش لا يقف عند حدود، ومن بين طموحاته كرسي السلطنة، وكان السلطان حسن يعلم ذلك، وأخذ يعد الخطة لاصطياده لكي يصفو له الجو، وتنتهي الصراعات، ويصبح هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في الدولة، ووضع خطة للقبض عليه عند دخوله القلعة، وبعدها يتحرك جنود السلطان لقتال أعوان صرغمتش والقضاء عليهم.. وتم تنفيذ الخطة، فاعتقل الأمير صرغمتش، واقتيد لسجن الإسكندرية، وبقي به حتى مات فيه، وتم التخلص من رجاله، وخلا الجو للسلطان حسن.

كان السلطان حسن قد بلغ الثانية والعشرين من عمره، فأخذ في ترتيب أمور الدولة، وتدعيم سلطته، وقلد أنصاره وأعوانه أعلى المناصب، وأنشأ مدرسة وجامع السلطان حسن، وهما كيان واحد، لكن غلب عليه مسمى جامع السلطان حسن، والذي مازال باقيا حتى زمننا هذا بميدان القلعة، وكان يتم تدريس الفقه الإسلامي فيه على المذاهب الأربعة، وألحق به مبنى ليكون سكنا للطلاب المغتربين، وتعد هذه أقدم سكن طلابي في العالم، ويعد المؤرخون والمستشرقون هذا الجامع المدرسة من أعظم المباني التي شيدت في التاريخ الإسلامي، وقال المقريزي إنه لا يعرف في بلاد الإسلام معبدا من معابد المسلمين يحاكي هذا الجامع، وقبته لم يبن مثلها في ديار مصر والشام والعراق والمغرب واليمن.

ويصف المقريزي الجامع من الداخل فيقول: إن بهذا الجامع من عجائب البنيان، منها أن ذراع إيوانه الكبير خمسة وستون ذراعا، ويقال إنه أكبر من إيوان كسرى، الذي بالمدائن في العراق، ومنها القبة العظيمة التي لامثيل لها في البلاد الإسلامية، ومنها البوابة العظيمة، والمدارس الأربع التي يضمها.

وقال عنه ابن تغري بردي: أنه من عجائب الدنيا، وهو أحسن بناء شيد في الإسلام.

وقال عنه الرسام العالمي رينوار: أنه يشرف على القاهرة كلها، ويعد أسلوب بنائه من أرقى الأساليب المعمارية، ومساحته رحبة عظيمة، وهو يعتبر أجمل جامع في الشرق كله بلا منازع.

اهتم أيضا السلطان حسن بالناحية الصحية لطلاب المدرسة، فرتب طبيبين، أحدهما متخصص في علاج الأبدان، والآخر متخصص في صناعة الكحل وعلاج العيون، وعين معهما جراحا، ليكونوا في خدمة طلبة المدرسة، وأنفق الكثير من الأموال على هذا الجامع المدرسة.

لكن السلطان حسن الذي أقام هذا الصرح الشامخ من صروح العمارة الإسلامية في القاهرة، كانت نهايته غامضة .

كانت صراعات المماليك حول السلطان قد اتسع نطاقها، وبدأ نائب السلطان في الشام ـ الأمير يلبغا ـ يعد مؤامرة للانقلاب عليه، وعلم السلطان بذلك فبدأ يعد هو الآخر للتخلص منه، وكانت خطة السلطان حسن هي أن يدعو يلبغا في رحلة صيد، وانتوى أن يصحبه في هذه الرحلة بعض رجاله الأشداء، ويقوم بالقبض على يلبغا، ويفعل فيه مثلما فعل بالأمير صرغمتش من قبل.

لكن الأمير يلبغا علم بخطة السلطان حسن للقبض عليه، فاستعد هو الآخر للمواجهة، واستدعى بعض أنصاره الأشداء ليكونوا إلى جانبه، وخرج الجميع في رحلة ظاهرها المرح والترويح، وباطنها الغدر والخيانة.

وبدأت المواجهة عندما أعطى السلطان لأعوانه إشارة القبض على يلبغا، ودارت معركة دامية بين أنصار السلطان، وأنصار الأمير يلبغا، وكانت الغلبة فيها لرجال الأمير يلبغا، فما كان من السلطان إلا أن ولى الفرار، وعاد إلى القلعة، لكن رجال يلبغا طاردوه، ولم يكن مع السلطان جند كافية للوقوف في وجه يلبغا، ففكر في الهرب ليلا.

وهكذا.. عندما جاء الصباح لم يكن للسلطان أي وجود، وقيل أنه تخفى في زي الأعراب وهرب إلى الشام، وقيل إنه قتل لكن جثته لم تظهر.. لكن الثابت أنه اختفى وانقطعت أخباره .

back to top