في ظل الأزمة المالية العالمية التي نعيشها اليوم، أصبحت صورة البجعة السوداء رمزاً لكل ما قد يبدو مستحيلاً، ولكنه يحدث في النهاية، فيقلب العالم رأساً على عقب. والحقيقة أن هذا العام سيوفر لنا فرصة ضخمة لدراسة البجعات السوداء التي صارت تعيش بيننا بالفعل، والاستعداد لوصول المزيد منهن.
يصادف شهر نوفمبر، على سبيل المثال، حلول الذكرى السنوية العشرين لسقوط سور برلين. كانت ليلة التاسع من نوفمبر 1989 بمنزلة بداية نهاية الاتحاد السوفييتي وإمبراطوريته، وبالتالي نهاية العالم الثنائي القطبية، الذي قَـسَّم ألمانيا وأوروبا طيلة خمسة عقود من الزمان. قبل ذلك التاريخ بعام واحد كان قِلة من الناس ليتصورون أن هذا الحدث الذي هز العالم وارد ولو كاحتمال بعيد. ورغم ذلك فقد سقط سور برلين وتغير العالم بين عشية وضحاها تقريباً. بعد زوال الاتحاد السوفييتي والنظام العالمي الثنائي القطبية، أصبح زمام السياسة العالمية، بل والاقتصاد العالمي، بين يدي الرأسمالية الغربية المنتصرة تحت زعامة القوة العالمية العظمى الوحيدة، الولايات المتحدة. وبدا الأمر وكأن لا شيء ولا أحد قادرا على صد الانتصار العالمي الذي حققته السوق، بما انطوى عليه ذلك من تجاوز لكل حدود الثروة سابقاً- واستمرت تلك الحال حتى الخامس عشر من سبتمبر 2008، التاريخ المشؤوم الذي شهد إفلاس مؤسسة «ليمان براذرز» وبداية انهيار النظام المالي العالمي. ورغم أن العالم المذهول مازال يحاول سبر أغوار العواقب المترتبة على هذا الانهيار العالمي وتخفيف آثار الصدمة، فقد بات بوسعنا بالفعل أن نسمع صيحات البجعة السوداء القادمة: إنها كارثة المناخ العالمية. يبدو أن إنكار احتمالات وقوع الأزمات العظمى، أو على الأقل الاستهانة بعواقبها، يشكل جزءاً من الطبيعة البشرية. والحقيقة أننا نستند في هذا السياق إلى صيغتين سحريتين: «مستحيل» أو «لن يبلغ الأمر هذه الدرجة من السوء». إننا نرفض استيعاب درس البجعة السوداء حتى بعد أن تصبح البجعة السوداء التالية مرئية بوضوح أمام أنظار الجميع. ورغم أن الأجيال التي مازالت على قيد الحياة اليوم قد شهدت أزمتين مأساويتين غير متوقعتين على الإطلاق على مدى العشرين عاماً الماضية، فمازلنا منغمسين في محاولات جماعية مذهل لحجب كارثة مناخية ذات عواقب أشد خطورة- ويسهل توقع عواقبها وأبعادها. ولكننا في الحقيقة قادرون على تلمس الطريق إلى الخروج من مأزق مروع من خلال الربط بين الحلول المطروحة لكل من أزمتي المناخ العالمي والاقتصاد. إن حلول أزمة المناخ معلومة على نطاق واسع بالفعل، والموارد اللازمة لتمويل هذه الحلول متاحة، وكذلك التقنيات العلمية، أو على الأقل يمكن تدبير وتطوير ما لم يكتمل منها. إن ما نفتقر إليه في الواقع هو الرؤية الاستراتيجية والعمل الجاد من جانب القوى السياسية الفاعلة الرئيسية في العالم. أما بالنسبة للأزمة الاقتصادية فقد تم تصميم أو تنفيذ عمليات الإنقاذ وبرامج التحفيز التي تكلفت مليارات الدولارات واليورو والين، في محاولة لمنع اقتصاد العالم من الانزلاق إلى أعماق أبعد في هوة الأزمة. ولكن رغم أن الإشارة في هذا السياق إلى أزمة الكساد الأعظم لها ما يبررها، فإن الدرس المستفاد من هذه الأزمة، ومن «الصفقة الجديدة»، يتلخص في أن البرامج الفعّالة قادرة في أفضل تقدير على تخفيف شدة السقوط وتمهيد طريق العودة إلى الاستقرار. أما الانتعاش الاقتصادي الحقيقي- وهذا هو النبأ السيئ- فلم يأت إلا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية ثم الحرب الباردة الطويلة التي تلتها. ولكن بدلاً من الاعتماد على الحرب باعتبارها مشروعاً اقتصادياً عملاقاً لإنهاء الركود الحالي، فيتعين على المجتمع الدولي أن يراهن على مكافحة أزمة المناخ، وذلك لأن العولمة ستستمر وستزيد من التهديدات الموجهة إلى مناخ العالم. في عام 1929 كان تعداد سكان الأرض من البشر يزيد قليلاً على ملياري نسمة؛ أما اليوم فقد ارتفع هذا الرقم إلى 6.7 مليارات نسمة، وبحول عام 2050 سيبلغ تعداد البشر على ظهر كوكب الأرض 9 مليارات نسمة. وبفضل العولمة وتقنيات الاتصال الحديثة فإن كلاً منهم سيناضل سعياً إلى الحصول على مستويات المعيشة نفسها، تقريباً، الأمر الذي لابد أن يؤدي إلى إجهاد النظام البيئي العالمي إلى أقصى الحدود. إن التساؤل حول استخدام الفحم أو الطاقة النووية لم يعد اليوم في محله: فمن دون تحقيق طفرة علمية في مجال الطاقات المتجددة، لن يتسنى للعالم تلبية الاحتياجات العالمية من الطاقة، ناهيك عن المخاطر المتمثلة في احتمالات تكرار كارثة انفجار مفاعل تشرنوبيل. وبوسعنا اليوم أن نرى إلى أين قد يقودنا هذا؛ فقد تبنّت الصين بالفعل أشد الخطط طموحاً على مستوى العالم للتوسع في الاعتماد على الطاقة النووية، وفي كل عام تبني الصين محطات توليد طاقة تعمل بالفحم وتنتج من الطاقة الكهربية ما يعادل سعة شبكة الطاقة البريطانية بالكامل! لابد أن يكون من الواضح إذن أن البجعة السوداء التالية تستعد للهبوط علينا. ولمكافحة أزمة المناخ بشكل فعّال، فإن الأمر لن يتطلب أقل من قيام ثورة خضراء في الاقتصاد العالمي، أو ما نستطيع أن نعتبره مشروعاً عملاقاً للقرن الحادي والعشرين. إن الأمم الصناعية في أوروبا وأميركا واليابان هي وحدها القادرة على تحمل تكاليف الاستثمارات الضرورية في البلدان الناشئة. ولكن الثورة الخضراء لابد أن تشتمل على ما هو أكثر من مجرد إنفاق للأموال؛ فمن الأهمية بمكان أن تستند هذه الثورة إلى القوانين والمعايير، وأعني هنا التنظيم السياسي والتقنيات العلمية الحديثة، فضلاً عن المنتجات والأسواق الجديدة التي تعني بالضرورة إتاحة فرص اقتصادية جديدة. سيشهد هذا العام انعقاد المفاوضات الخاصة بالتوصل إلى اتفاقية جديدة بشأن مناخ العالم في كوبنهاغن، ومن المفترض أن تحل هذه الاتفاقية الجديدة في محل «بروتوكول كيوتو». وهذه في الواقع الفرصة الأخيرة لمنع البجعة السوداء القادمة من الهبوط بيننا. ولكن يتعين علينا أن ندرك أن كوبنهاغن تشكل أيضاً فرصة كبرى لإنعاش الاقتصاد العالمي. إن كل القوى العالمية المعنية في القرن الحادي والعشرين ممثلة في مجموعة العشرين، ويتعين على هذه القوى أن تنظر إلى نجاح كوبنهاغن باعتباره جزءاً من مسؤولياتها المباشرة. ولكن هذه المرة، وعلى عكس ما حدث في قمة مجموعة العشرين التي انعقدت في لندن أخيراً، يتعين على هذه القوى العالمية أن تقوم بعملها على النحو الأمثل- من أجل حماية مناخ العالم وإعادة تشغيل الاقتصاد العالمي. * يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا الأسبق. «بروجيكت سنديكيت/معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
عالم البجعات السوداء
02-05-2009