مريخ الحرب وانتصار الحب
سيبلغُ الإنسانُ المريخ ويُقيم فيه.
كمْ بدت المركبةُ الفضائية التي استقرّت على تربته الحمراء فخورةً بانتسابها إلى الإنسان! ولكنْ هل تبدو المفارقةُ صارخةً، حين نرى الإنسان، ابن الأرض، أحمقَ أيضاً بفعلِ صبينتِه! ومن منّا المؤهّل لرؤية الإنسان بحُلّةِ حماقته؟ الفيلسوف؟ وهل خلتْ الفلسفةُ من حمقى النظريات التي قادتْ الإنسان إلى التهلكة؟ الإنسان ابن الحكمة والحماقة معاً. حين كان الواقعُ والأسطورةُ في وحدة متماسكة، كان ابن الحضارة القديمة يرى المريخ في هيئة مقاتل بالغ القوة. الرومان، بعد اليونان، منحوه اسم إله الحرب، بكامل عُدّة المحارب، ليكون مادة رسم لفناني عصر النهضة، وعصر التنوير، والعصر الحديث، بالغةَ التنوّع. رأوا فيه، إلى جانب هيئة إله الحرب، شاباً غايةً في الوسامة، مؤهّلاً لولَه الحسناء فينوس. أول لوحة تطالعنا، من تاريخ هذا الفن الغربي، للفلرونسي «بوتشيللي» (1444-1510): فينوس برداء شفاف، تتأمل مارس (المريخ) الغارقَ في غفوةِ ظهيرة، وهو عار، تقنية الرسم في تلك المرحلة المبكرة تمنح الهيئات البشرية، والمشهد بجملته، هالة غير دنيوية، وغير بشرية. على العكس من المراحل اللاحقة، التي أنزلت آلهة اليونان إلى الأرض، ومنحتهم سيماءَ البشر، حتى أن الاسباني الكبير فيلاثكويث (1599-1660) رسم بورتريتاً لمارس بالغ البشرية، حتى ليبدو جسدُه الجالسُ، في لباسه الحربي، كياناً زمنياً شأن الإنسان. درعُه مرميّ على الأرض، وبنيانُ جسده على أبواب شيخوخة موارب. أشعرُ، حين أتأملُ لوحتَه الرائعة، وكأن فيلاثكويث قرّب مارس الأحمر من وطأةِ مركبةِ الإنسان الفضائية، وانتصارها. فيرونيس (1528-1588) من فينيسيا، رسم مارس في لحظة حب غاية في الحسية مع فينوس، وعلى مقربة رسمَ الصغير كيوبيد، إله الحب، وهو يُقرّب فرساً منهما، وكأنه يُذكّر مارس برجولته الحربيه التي غادرته. في لوحة الفرنسي ديفيد (1748-1825)، شاهد حروب نابليون، نرى الحسناء فينوس وحاشيتها وهم يجرّدون مارس من عُدةِ حربه، على سرير الحب الواسع. لحظة رائعة لتدفّق الضوء والكشف الشجاع عن التعارض بين الحرب وعدتها والحب وعدته. فكرة تجريد مارس من سلاح الحرب من قبل فينوس كثيراً ما تكررت في لوحات أسبق من لوحةِ دافيد. المريخ الذي يطلّ علينا أحمر، يقارب حجم الأرض، ويحمل ما تحمل من سر الحياة بفعل توافر الماء، على الرغم من وجوده على هيئة جليد، والذي أوحى للرسام المعاصر شوان أولسون بسلسلة من لوحات المشاهد الحجرية الحمراء، كان مصدر إيحاء لا يقل قوة للشعراء أيضاً. الشاعر تشوسر له واحدة عصية على القراءة. أخرى لولتر دي لا مير، ولكن الاستجابة أصبحت ثرّةً بعد اكتشافات العالم الفلكي شياباريللي (1877)، الذي سمى عليه بحاراً وقنوات، فألهب خيال كتّاب الأدب، من أمثال لاول، ويلز صاحب «حرب النجوم»، ادغار بوروز صاحب «طرزان»، وروبرت غريف... الخ. الشاعر ستيورت آتكِنسون خصص موقعاً في الانترنت لقصائده، وقصائد المأسورين بالكوكب الأحمر. الآخر ديفيد ساليزبيري يكتب قصيدة بعنوان «فوق مارس»: ما منْ حياةٍ فوق مارس، بل وجودٌ، تواصلٌ على امتداد الخطوط اللامتناهية فوق الجزيرة المعلّقة في البرد الأسود. خارج الغبار الأحمر يتحرك مثل نائم مضطرب بفعلِ أحلام ٍمزعجة، أو يحاولُ دون توقّف جَرباً ما منْ سبيل إلى حكّه. ما مِنْ زمنٍ حقيقي فوق مارس، فقط تكتكةُ رمل في ساعات تُقطّرُ ذرّاتها في مزولةٍ، لك أن ترى الزمنَ يعبرُ ثانيةً ثانيةً في أعين الناس غيرَ مُدرَكَةٍ تتضاءلُ وضوؤها يتلاشى. تنسحب الظلالُ فوق الخطوط المفزعة. ما مَنْ شيء فوق مارس. ما من كائنات غريبة في البيوت القرميد. ما من حجر منقوش ٍبشعائر قديمة. ما من غوثٍ من الضوء النحيل الذي لا يُطاق. ما من شيء لتكتشف، ما من شيء لتنتصر عليه لا شيء غير انتظار ومراقبة للغبار الذي يسقط.