الخليج والثمار الموسيقية

نشر في 17-07-2008
آخر تحديث 17-07-2008 | 00:00
No Image Caption
 فوزي كريم في العدد الأخير من مجلة BBC Music أكثر من خبر وتعليق عن النشاط الموسيقي الكلاسيكي في الخليج العربي: الرباعي الوتري من ألمانيا يقدم موتسارت وبرامز إلى الجمهور من الجنسين في مركز الملك فهد الثقافي في الرياض. «لندن فيلهارمونِك أوركسترا» تشرف على بناء قاعة كونسيرت ومعهد للموسيقى في قرية دبي الثقافية، وستكون أولَ ضيف مقيم هناك. أبو ظبي تواصل بناء مركزها الثقافي الضخم، الذي سيضم قاعتي موسيقى ودار أوبرا تتسع لستة آلاف مشاهد. مهرجان موسيقي كلاسيكي حدث في أبي ظبي هذا العام شاركت فيه السوبرانو آنا نيتريبكو، وعازفة الكمان سارة تشانغ. في شهر يونيو الماضي استمع الجمهورُ الموسيقي في الدوحة إلى أول عمل سيمفوني يوضعُ بتكليفٍ للموسيقي العراقي سالم عبدالكريم، تحت عنوان «سيمفونية قطر»، ويمتدُّ لساعةٍ واحدة. وقطر أكثر دول الخليج حماساً في هذا الحقل، فهي تسعى هذا الصيف الى تأسيس «أوركسترا قطر السيمفوني» من عناصر موسيقية أجنبية كمرحلة أولى، ثم السعي الى تهيئة الكادر الوطني من خريجي «الأكاديمية الموسيقية» التي ستبدأ نشاطها التعليمي في الخريف القادم.

هذا الاكتراث بالموسيقى الكلاسيكية أولُ مبادرة لبعث الحياة في العمارة الفخمة المزدهية بفاعليتها المالية. بيتهوفن لمْ يعد ألمانياً، ولا أوروبياً، ولا غربياً. اتضحت ملامحه الصينية، واليابانية، والهندية، والتركية مع الأيام. ملامحه العربية اتضحت فترة وجيزة في سنوات النهضة حتى أوائل الخمسينيات. يوم كانت دار الأوبرا في مصر تستقبل المغنين والفرق الأوركسترالية والأوبرالية كما تستقبلها لندن وباريس. ثم تلاشت وراء غبار الثورات العسكرية، والعقائدية.

الموسيقى الجدية فاعليةٌ روحيةٌ وعقلية، لا تجد متّسعاً رحباً لها في البلاد التي تئنّ من وطأة الجاه والشاغل المالي والاستهلاكي، وهي بالتأكيد لا تجد هذا المتسع الرحب في البلاد التي ترزحُ تحت وطأةِ الحكم الشمولي والمعترك العقائدي. كلا الجنونين: جنون المال، وجنون السلطة، لا يتوافقان مع أبسط رباعية لشوبرت، أو ليلية لشوبان. ولذا تسعى الموسيقى الى الهرب. ومجانين المال والسلطة يوسّعون لها سبيلَ الهرب هذا بكل ما يملكون من قدرة.

والأدهى من هذا أن أكثرَ مثقفي هذه البلدان، الساعين الى الجاه والسلطة، في الخفاء طبعاً، يعززون غيابَ الموسيقى بالمواقف النظرية، يقولون مثلاً إن الموسيقى الجدية هذه ليست إرثاً عربياً. أو هي إرث غربي دخيل. وإن المعني بها ليس أكثر من متثاقف. وإن لنا موسيقانا الجدية. ثم يسعون جاهدين الى اختلاق موسيقيين ومغنين يتعالون بنصوص لجلجامش، أو بأسماء شعراء عالميين أو محليين، ثوريين في الأغلب. ولا يعرفون أن الموسيقى لا تعتمد النصَّ الشعريَّ لتكون جدية، أو كلاسيكية، وإن المغني مهما اعتمد الفراغات الصامتة، وحركات الإعراب، ومناجاة جيفارا، نيرودا، جلجامش، أو محمود درويش، لن يقرب أعتاب الموسيقى الجدية. لأن الموسيقي الجدي، كالشاعرِ الجدي، يعطي بفعلِ ضرورة داخلية، لا بفعلِ ضرورة إعلامية، سياسية ...

إن الاحتيال على الموسيقى الكلاسيكية بأنها غربية، وأنها دخيلة، احتيال على النفس. وكأن الفن التشكيلي بكل مدارسه، والمسرح، والسينما، والباليه، والرواية فنون إبداع عربية عميقة الجذور! مع أن الموسيقى تنفرد، دون هذه الفنون، بأنها تتمتع بلغة عالمية لا حدود جغرافية لها.

إن الموسيقي العراقي سالم عبدالكريم، الذي وضع «سيمفونية قطر»، وعزفها على الجمهور في الدوحة، لم يجد أمنية أقرب إلى قلبه من أن يرى عمله يعزف من قبل أوركسترا البي بي سي السيمفوني، أو شيكاغو السيمفوني، في قاعات العزف العالمية المشهورة. هذا ما صرّح به للمجلة المذكورة أعلاه.

عالميةُ الموسيقى وحدها إذن، لنْ تيسرَ دخولَ الموسيقى إلى دول الخليج بالتأكيد. فالتنافر بين سطوة المالِ والاستهلاك وبين الموسيقى كفيل بسحق الثانية، ولكن الإرادة الإنسانية الواعية، القادرة على الانتفاع من عالمية الموسيقى، هي التي ستفتح السبيل لذلك. هي التي ستعيد للعربي مشروعية عالميته، لا في المال وحده، بل في رحابة الروح والعقل أيضاً.

back to top