-1 أصبحت أسعار النفط في الأسواق العالمية، الشغل الشاغل للإعلام الغربي، وللرأي العام العالمي، ولرجل الشارع أيضاً. وأصبح صُنّاع القرار في العالم، ينظرون إلى هذا الشأن نظرة العدو الحقيقي، الذي يهدد الاقتصاد الغربي والعالمي بشكل عام، بينما نظر إليه الآخرون على أنه «وباء العصر الحديث»، بعد أن اختفت الأوبئة الصحية التقليدية من حياة البشر، بفضل تقدم العلم وانجازات الطب العظيمة. وأصبح العالم بسياسييه وشعوبه وإعلامييه ومثقفيه، ينظرون إلى دول الخليج خصوصاً، نظرة كراهية وعداء وحقد. ومبعث هذه النظرة العدائية، أن البترول الذي لا تبذل في استخراجه هذه الدول أي مجهود، يستنزف جيوب شعوب العالم التي تكدح ليل نهار لتوفير ثمن جالون النفط. والأخطر في هذا الوباء العصري الجديد، أن السماسرة والمضاربين، قد دخلوا في لعبة انتشار هذا الوباء، كما سبق ودخلوا وكما هم يدخلون الآن، في لعبة انتشار المخدرات، وارتفاع أسعارها، على أشكالها المختلفة.

Ad

-2 فالسماسرة والمضاربون Speculators، هم الذين يرفعون- مثلاً- سعر المخدرات بأنواعها المختلفة، فأسعار المخدرات في أماكن إنتاجها ككولومبيا والمكسيك وأفغانستان وسهل البقاع اللبناني وغيرها من أماكن زراعة المخدرات في العالم، أرخص بكثير مما هي في أسواق نيويورك ولوس انجلوس ولندن والقاهرة والدار البيضاء المستهلكة للمخدرات. والفرق بين السعرين ليس ناتجاً عن تكلفة النقل المرتفعة ذات الخطورة الشديدة، ولكنه ناتج عن تدخل السماسرة والمضاربين في هذه السلعة الخطرة. وقد صدق بعض مندوبي الدول المنتجة للنفط في الاجتماع الدولي الأخير للنفط في جدة 22/6/2008، الذين اجتمعوا للبحث في أسباب ارتفاع أسعار النفط الجنونية (فاقت حتى الآن 140 دولاراً للبرميل، بينما كان السعر المُرضي لدول الأوبك هو 70 دولاراً في حده الأعلى والأقصى) من أن تدخّل السماسرة والمضاربين في السوق النفطي، ساهم مساهمة كبيرة في ارتفاع الأسعار، مما لفت انتباه أعضاء الكونغرس الأميركي في اجتماعهم الأخير إلى هذه المشكلة، وضرورة إيجاد حلٍ سريع لها، يتلخص في عدم بيع النفط من قبل منتجيه، إلا للموزعين المعتمدين لدى «أوبك»، وعدم إعادة بيعه بالجملة مرة أخرى، حتى لا يتدخل السماسرة والمضاربون في بيعه وشرائه، ويجنون من ورائه أرباحاً طائلة، على حساب المستهلك.

-3 هذا هو الوجه الأول من أزمة وظاهرة ارتفاع أسعار النفط والثروة المترتبة عليه، والعائدة على الدول المصدرة للنفط، وعلى رأسها الدول الخليجية وكذلك العراق، الذي لا ينتج حتى الآن بكل طاقته القصوى نتيجة لأوضاعه الأمنية، ونتيجة للحال السياسي المُلتبس الذي يتلبسه حتى الآن. وربما كان هذا من حُسن حظ العراق، لكي لا يُنتج أقصى ما يستطيع من النفط يومياً، ويستنزف مصادر الطاقة الغنية، وتضيع ثروته هباءً، في ظل الفساد والسرقات والعبث الإرهابي، الذي ينخر الآن في جسم العراق الجديد.

أما الوجه الثاني من أزمة وظاهرة أسعار النفط والثروة الهائلة المترتبة عليها، فهي ظاهرة خطيرة ومؤلمة للغرب خصوصاً، وربما هددت حضارته، وقيمه السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية كذلك.

فمن المفروغ منه القول، إن الثروة الهائلة التي هبطت خلال السنين الثلاث الماضية على الدول الخليجية هي أسطورة الأساطير، وحلم الأحلام. وبعد مئة سنة أو أكثر، سوف تصبح هذه الثروة كحكايات ألف ليلة وليلة الأسطورية. فلم يكن أحدٌ من الشرق أو من الغرب، يحلم بأن يصبح سعر برميل البترول يوماً قريباً من 140 دولاراً للبرميل، وتراكم هذه المليارات من الدولارات في خزائن الدول المنتجة للنفط، لا تعرف كيف تتصرف بها، مما يضطرها- كما يتم الآن- إلى استثمار جزء منها في مضاربات بالبورصة، وفي سوق العقار المحلي، وإلى استثمار جزء آخر من هذه الأموال في الغرب، في شراء العقارات، والفنادق، والأسهم، والسندات، وشركات الخدمات الأخرى، ومزاحمة اليابانيين والصينيين في تسابقهم لشراء المنشآت الغربية المعروضة للبيع في الأسواق العالمية، نتيجة للطفرات الاقتصادية والسيولة النقدية الضخمة التي تتمتع بها الآن هاتان الدولتان.

لكن أثرياء هاتين الدولتين بدأوا بشراء ما هو معروض للبيع في الأسواق الغربية منذ فترة، من دون أي اعتراض من السلطات الغربية، ومن دون أي ضجة من الإعلام الغربي. ذلك أن اليابانيين والصينيين عندما يشترون هذه الأصول المختلفة بمبالغ ضخمة، لا يحملون في طيات هذه الصفقات أي ايديولوجيات دينية أو قومية، لكي تنفذ إلى الأسواق، بصحبة المبالغ الطائلة. فلا اليابانيون حاولوا دسَّ تعاليم ديانة «الشنتو»، ولا الصينيون حاولوا دسَّ التعالم البوذية أو الكنفوشيوسية أو شيوعية ماو، بين طيات الصفقات المالية التي عقدوها، أو التي يعقدونها في الأسواق الغربية. وهم إن فعلوا ذلك، فلن تؤثر هذه الايديولوجيات في الأمن والسلم الاجتماعي الغربي، ولن ترفع من وتيرة الإرهاب في الغرب.

في حين، ان الخوف يتأتى للغرب، نتيجة للاستثمارات العربية، والخليجية على وجه الخصوص، في الأسواق الغربية، نتيجة لتداعيات كارثة 11/9/2001 ، وما تمَّ بعد ذلك في العراق بعد 2003. ونحن مازلنا نذكر، كيف أن الكونغرس الأميركي، وقف ضد صفقة شراء بعض الموانئ الأميركية المهمة التي كانت دبي تريد عقدها، وكيف تمكَّن من إلغاء هذه الصفقة، التي كانت مثار خلاف شديد بين إدارة بوش والكونغرس. ويعتقد الغرب أن دخول المال الخليجي إلى الأسواق الاستثمارية، سوف يكون ملفوفاً بورق أصفر من التعاليم الدينية الإسلامية المتشددة، التي تنادي بمحاربة الآخر الكافر، وهدم الحضارة الغربية التي يُطلق عليها بعض رجال الفكر الديني المتشدد «جاهلية القرن العشرين»، كما قال سيد قطب في كتابه «معالم على الطريق، 1964»، وكما قال عنها أخوه محمد قطب في كتابه «جاهلية القرن العشرين، 1992»، وهي كلها صدى وتكرار لما قاله الداعية الديني الباكستاني المتشدد أبو الأعلى المودودي.

-4 وهذه المخاوف من الثروة النفطية، التي تدفقت على الأسواق الغربية وربما الملفوفة بورق أصفر تحتوي على تعاليم دينية متشددة، كما تحمل- ربما أيضاً- بين ثناياها الخوف من أن تُستعمل هذه الاستثمارات مستقبلاً، للضغط السياسي على أميركا بالذات، لحل القضية الفلسطينية وقضايا إقليمية جانبية أخرى... هذه المخاوف، أثارها قبل فترة ريتشارد هاس في مجلة «Foreign Affairs» الفصلية، والذي قال، إن دخول الاستثمارات الخليجية إلى الأسواق الأميركية خصوصاً هو بداية عالم عديم الأقطاب The Age Of Nonpolarity. وكذلك اثار المخاوف ذاتها دانييل دريزنر الأستاذ المساعد للسياسات العالمية بكلية فلتشر، في مقاله «السيادات قادمة» بمجلة «The American» في عدد شهر مايو/يونيو 2008.

وتتفق معظم الآراء، على أنه مع تضاعف حجم سوق رأس المال العالمي، خلال السنوات الخمس الماضية، ازدادت ممتلكات صناديق الثروة السيادية ثلاثة أضعاف على الأقل. وقد وصل إجمالي قيمة هذه الصناديق في دول الخليج الست، إلى نحو 1.5 تريليون دولار في أواخر عام 2007، بينما يُتوقع أن تصل قيمة هذه الصناديق إلى 3 تريليونات دولار، بحلول عام 2010، في حال استمرار ارتفاع أسعار النفط بصورة قياسية. ويعكس هذا النمو في الصناديق استمرار الارتفاع في أسعار المواد الغذائية، وعدم التوازن على الساحة العالمية، أكثر منه زيادة في التنوع العالمي في محافظ الأوراق المالية، على حد تعبير حنان سليمان، التي نشرت تقريراً في دورية «تقرير واشنطن» بهذا الخصوص.

ولعل المخاوف الأخرى، التي تثيرها استثمارات دول الخليج على وجه الخصوص، والتي تتركز في عدم خبرة دول الخليج المالية في هذا الحجم الضخم من الاستثمارات، قد أخذها معظم المعلقين في الحسبان الذي حذر من تداعياتها على سوق المال العالمي. وهذا ما قاله التقرير المشار إليه، من أن القلق الكبير، هو أن تُسيء حكومات الخليج إدارة الاستثمارات العالمية، وتُحدث عمليات فساد في هذه الاستثمارات، وهو ما يفزع أميركا ويخيفها، إضافة إلى دول أوروبية أخرى.

* كاتب أردني