ساهم اقتحام السياسة الفج للأدب في توجه بعض النقاد إلى شرح النص من داخله، دون الالتفات إلى السياق الاجتماعي-السياسي له، فبعض الاتجاهات الواقعية، انتهكت النص الأدبي لحساب إيديولوجيات معينة، مما حوله أحيانا إلى منشور سياسي، في حين حولت المدرسة «السيكولوجية» إنتاج الأدباء إلى شهادات طبية، تدل على حالة الأديب النفسية من الطفولة إلى الكهولة، وتؤرخ لحياته الخاصة، مع أن الأدباء، بمن فيهم أولئك الغارقون في الواقعية، لا ينكرون أن ما تجود به قرائحهم، ليس مجرد مرآة تعكس الحياة البشرية فقط، بل هم يضيفون للواقع من خيالهم الخصب ما يحفظ للأدب جماله وتفرده، ويجعل بعض جوانبه تمثل عالما موازيا للعالم الذي نعيشه.
لقد تطرف بعض الواقعيين، بدعوى الالتزام، أو الإخلاص لإيديولوجية سياسية معينة، ولم يفرقوا بين الفن ونقل المعلومات، أو إسداء النصائح، وعندما حولوا رواياتهم إلى علم اجتماع أو دعوة أخلاقية، وخلطوا بين الرواية والتقرير، أنتجوا فنا بليدا، وعرضوا بضاعة فاسدة. فهم نادوا بأن يكون الأدب ملتزما بخدمة أهداف سياسية، مع أن الالتزام، في نظر البعض، من اختصاص المقال، وليس الأثر الأدبي. فالمقال لحظي، حيث إنه يرتبط بحدث، غالبا ما يكون عارضا، أما الأدب، فرغم خروجه من رحم التجربة الحياتية للأديب، فإنه ينفصل عن زمانه ومكانه، ويتحول إلى قطعة فنية تتناقلها الأجيال، دون أن تفقد بريقها. فنحن لانزال نحصد المتعة والفائدة نفسها، التي حصدها الأوائل، حين قرؤوا شعر المتنبي، وأسطورة ألف ليلة وليلة، ومسرحيات شكسبير، وروايات بلزاك وتولستوي، بل قد تؤثر قطعة أدبية في أجيال لاحقة أكثر من تأثيرها في من عاصروا كتابتها، لكننا لا ننفعل بالأحداث السياسية القديمة، أو نتأثر بها، بالدرجة التي تأثر بها من عايشوها.ومن هنا فإن ليَّ عنق النص لحساب توجهات سياسية معينة، أو شحن الأدب بتعبيرات ومواقف نابعة من إيديولوجية ما، يفقده ديمومته النسبية، حين تتوارى هذه الإيديولوجيات في الظل، وتصبح تاريخا، بعد تجريد النص الأدبي من جماله الفني، أي النيل من «أدبية» الأدب. وهذا التطرف قدم مبررا قويا للنقاد الذين سعوا إلى تفسير النص الأدبي من داخله، اعتمادا على بلاغة اللغة وشاعريتها، مبتعدين عن «دوغما النظرية» التي وصفها بول دي مان بالعمى، معتبرا أن اللجوء إلى الحس الموضوعي في تأويل النص الأدبي، هو البصيرة. ولتجنب هذا العمى، من وجهة نظرهم، عزف البنيويون والتفكيكيون، ومن قبلهم الشكليون الروس، خاصة في مرحلتهم الأولى، عن ربط النص بأي ظرف اجتماعي سياسي، وتعاملوا معه على أنه شيء معلق في الفراغ، لا يمت بصلة إلى ما تموج به الحياة من أحداث ووقائع. واعتبر البعض أن النقد القائم على تحليل النص من داخله هو الطريقة الوحيدة بين سائر الطرق النقدية، التي تخلص لعملها وهدفها إخلاصا يدعوها إلى البقاء على أرضها وفي ميدانها، دون التطفل على ميادين أخرى، «ذلك أن الناقد الذي ينظر إلى النص نظرة التحليل النفسي، مثلا، يمكن اعتباره من علماء النفس، بقدر ما يمكن اعتباره من نقاد الأدب أيضا، والناقد الذي ينظر للنص نظرة اجتماعية، محاولا أن يتخذ منه وثيقة تدل على أوضاع حياتية معينة، يمكن إدخاله في زمرة علماء الاجتماع، بقدر ما يمكن إدخاله في زمرة نقاد الأدب، أما ذلك الذي ينصرف كل جهده إلى تحليل النص الأدبي من داخله، فهو لا شيء إلا كونه ناقدا أدبيا خالصا»، وعليه هنا، كما يقول الناقد الروسي يوري تينيانوف، أن يقصي أي مرجعية نفسية تتعلق بالمؤلف، ويرفض أي علاقة سببية بين وسطه الاجتماعي والظروف السياسية للحقبة التي يعيشها، وما ينتجه من مؤلفات. ولأن الماركسية هي من أكثر المذاهب ربطا للفكر بالواقع المادي، ومن ثم ربطا للمؤلف بوسطه الاجتماعي، فقد نالها النصيب الأوفر من انتقادات بعض البنيويين، خاصة في المراحل الأولى للبنيوية، حيث اعتبروا الماركسية عصا غليظة، تملي على الأديب ما يريد قوله، قبل أن يتلفظ بكلمة واحدة، وتربط، قسرا وبشكل خاطئ، أي إنتاج أدبي بالمجتمع والتاريخ والصراع الطبقي، وتضغط الأدب داخل مشاريع تاريخية إيديولوجية، وتختزله إلى قرارات وشعارات سياسية يومية. وعموما فإن الاعتراف بعلاقة الأدب بالسياسة، يحتم ضرورة التفريق بين الجوانب السياسية التي تتضافر مع الأدب أو تمتزج به بشكل طبيعي، دون جور على فنية النص، والسياسة التي تفسد الأدب، وهي تلك التي تتخذ من النص الأدبي مطية لخدمة إيديولوجيات معينة من ناحية، أو تلك التي تجسد السلوك السياسي بمعناه السلبي، أي «المعنى المتداول في بورصة الارتزاق بالسياسة والخداع والنفاق والسباحة في مستنقعات التآمر على مصالح الوطن العليا»، من ناحية أخرى.وبشكل أكثر إيضاحا وإجمالا، فإن علاقة الأدب بالسياسة تتأرجح بين نقطتين، الأولى عمياء، والثانية مبصرة. وتدخل هذه العلاقة في النقطة العمياء، عندما يكون العنصر المهيمن على النص هو توصيل الرسالة السياسية، بينما تدخل النقطة المبصرة، حين تنطلق من إدراك أن العمل الأدبي هو ممارسة لغوية بالدرجة الأولى، حتى لو كان يتناول موضوعا يمس السياسة.* كاتب وباحث مصري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
السياسة حين تفسد الفن
09-06-2009