كتب الأكاديمي الدكتور بسام الشطي مقالا «غير أكاديمي» يتساءل فيه عن مدى تأثير التنصير في بلاد المسلمين، ليحذرنا من تلك المؤامرات التي تقوم بها السفارات والفاتيكان والصليب الأحمر والجاليات المسيحية العربية في منطقة الخليج، بالإضافة إلى قيام طلبتنا المبتعثين في الخارج بزيارة أسبوعية للكنائس، وفرض تسجيل الحضور في هذه الكنائس «في أغلب الجامعات»! استند الكاتب في تحليله إلى عدد المسيحيين في دول الخليج العربي، قائلاً إن «العدد التقريبي للنصارى في دول مجلس التعاون فاق المليون ونصف المليون»، وإن «عدد النصارى الذين يحملون الجنسيات الخليجية 350 مواطناً ومواطنة، وعدد الكنائس الرسمية في دول الخليج 35 كنيسة»... مسهباً في الحديث ليصل إلى نهاية تعميمية محسومة، وهي أن «هؤلاء لا يعاملون المسلمين في بلادهم مثلما نعاملهم، فمنعوا إنشاء المساجد وتدخلوا في تعيين الأئمة والمؤذنين، ومنعوا الحجاب والنقاب وحفظ القرآن وعدم توظيف العرب المسلمين، بينما سهلوا مهمة العرب النصارى في اللجوء والإقامة والتوظيف ومازالوا قساة على المسلمين في ديارهم»!

Ad

يشوب هذا المقال الكثير من المغالطات أهمها التعميم المناقض لنظريات المعرفة جميعها، كونها تفتقر إلى «التوازن المعرفي والأخلاقي في النظرة إلى الآخر» الذي تطرق إليه الكاتب المتميز زين العابدين الركابي، الذي يرى ضرورة التمسك بالنظرة المنهجية الأخلاقية الصحيحة إلى الآخر... فنقد العنصرية في الآخر لا يعني النقد الشامل لسلوك الآخرين جميعاً، ذلك أن التسامح والأخلاق والعقلانية والإنصاف ونزاهة الضمير هي صفات إنسانية لا يمكن حصرها منهجياً في جماعة أو جنسية أو مذهب أو دين، واستشهد الأستاذ الركابي بنماذج تطبيقية عديدة للتدليل على كلامه، سأتطرق إلى اثنين منها فقط، وهي «مطالبة كبير أساقفة كانتربري ورئيس الكنيسة الإنجيلية العالمية بمراعاة حقوق مسلمي بريطانيا التشريعية في مجال الأحوال الشخصية في القوانين البريطانية... وهذا موقف عاقل وعادل من هذا الأسقف المحترم... وهو من فئة (الآخر) وليس من فئة المسلمين!»، بالإضافة إلى تتابع «السفن المبحرة من قبرص إلى فلسطين المحتلة والتي تبتغي كسر الحصار عن غزة، وإيصال الطعام والدواء إلى الجياع والمرضى هناك». ويردف الركابي قائلاً إن «معظم الذين تحملهم سفن الإسعاف هذه هم من غير العرب وغير المسلمين (وفيهم حاخامات يهود)! وهذه (عدالة) لا تفرق بين الناس بسبب أديانهم وجنسياتهم».

لذا لا يمكن أن نعتبر وجهة النظر غير العادلة التي تعتقد بالكمال أو الخراب (سواء للآخر أو للذات) نظرة علمية موضوعية، إنما تؤخذ الأمور من خلال منهجية «التبعيض والتفريق» التي تكلم عنها الركابي، وتعني أن نخص البعض ونفرِّق عن الكل عوضاً عن التعميم غير العقلاني الذي يؤدي إلى الغلو والتحيز... وحين نقارن أعداد المسيحيين في دول الخليج (التي تطرق لها د. الشطي) بملايين المسلمين الذين يعيشون في أوروبا وأميركا وما يتمتعون به من حرية وحقوق في «بلاد الكفار» نرى العجب العجاب... ونسوق هنا بعض الأمثلة التي لا يمكن حصرها كلها في مقال كهذا... وهي أمثلة عشوائية تدحض ما تطرق إليه د. الشطي من سوء معاملة الغرب للمسلمين، مثل:

- إنفاق ملايين الجنيهات من قبل دافعي الضرائب في بريطانيا على آلاف اللاجئين المسلمين (حتى على بعض المتطرفين منهم الذين فروا من الأنظمة العربية المستبدة، حيث تسامح معهم المجتمع البريطاني والحكومة ومنحهم مساحات واسعة من الحريات حتى شكلوا تهديداً خطيراً على أمنها القومي)، ويعيش طالبو اللجوء على المساعدات المعيشية والتأمين الصحي من الدولة ودافعي الضرائب.

- يبلغ عدد المساجد في أميركا حسب عملية مسح صادرة عن مركز الأبحاث الاجتماعية في جامعة جورجيا الأميركية ما يزيد على 1200 مسجد، كما يوجد في بريطانيا حوالي ألفي مسجد، منها ألف على الأقل في لندن وحدها.

- وصول بعض المواطنين المسلمين في أميركا وأوروبا إلى أعلى المناصب والمراتب داخل مجتمعاتهم، وعلى سبيل المثال لا الحصر نيل المسلم اللورد نذير أحمد عضوية مجلس اللوردات في بريطانيا، وحصول مسلمين على عضوية الكونغرس الأميركي، وتعيين داليا مجاهد عضوة بلجنة شؤون الأديان في البيت الأبيض.

- تصويت الأميركيين لأوباما الذي يعود إلى أصول إسلامية ومد يده للعالم الإسلامي بعد تنصيبه رئيساً رغبة منه ومن المجتمع الأميركي في التحاور والتفاهم مع المسلمين.

- إنشاء العديد من المؤسسات والمنظمات الإسلامية التي لبعضها علاقات قوية بمؤسسات المجتمع المدني والحكومات الأوروبية والأميركية.

وبينما يندمج الكثير من المواطنين المسلمين في المجتمعات الأوروبية والأميركية ويتمتعون بحقوق تكوين أحزاب ومؤسسات ومساجد ومكتبات ومدارس وأكاديميات (على الرغم من تعرض البعض لضغوطات وسلوكيات عنصرية فردية)، بينما يتمتعون بتلك الحقوق يمنع القانون الكويتي تجنيس غير المسلمين... ويكفيك أن تلقي نظرة عابرة على ما يحدث من ظلم وغبن على الأقليات في الكثير من الدول العربية.

بعد كل هذا يقول د. الشطي: «هؤلاء لا يعاملون المسلمين في بلادهم مثل ما نعاملهم»! إلا لو كان الدكتور يعني أن نُزيل الـ35 كنيسة في دول الخليج، أو أن نسحب الجنسية من 350 مواطناً مسيحياً في كل جزيرة العرب... وفي المقابل أن يفسح المجال ثانية لأن يعبث متطرفو 11 سبتمبر في أميركا و7 يوليو في بريطانيا بساحاتهم الجهادية العلنية، بمنتهى الحرية!