يا من حملتِ القناديل في الحواري المظلمة... يا من ألقيتِ بحجارك في المستنقعات الراكدة الآسنة... تحركت المياه كما رغبتِ ولكنها كانت سيلاً جارفاً مصحوباً بريح عاصفة لطالما استطاعت بجبروتها أن تقلع الأشجار من جذورها... ولكن لم تنحنِ هامتك وبقيت عالية رغم الهجوم الغوغائي... ليقوّلوك ما لم تقولي، وينسبوا إليك الأكاذيب، بل ويشيعوا عكس ما تنادين به. تقولين افتحوا الكتب وانفضوا الغبار عنها، ويقول الكهنوت العنوا من يتجرأ على نفض غبارها، وتصيح الجماهير القروسطية معه بصوت واحد: اسحقوهم عليهم اللعنة... تنادين بالدولة المدنية واحترام حقوق الإنسان، ويا للعجب يدّعون أن حديثك هو حديث طائفي! هم لا يقرأون ولا يتدبرون... بل يهتفون ويشتمون فقط، لأنهم يجهلون أن ثقافة النقد والجدل الراقي ترتكز على المبدأ والفكر دون شخصانية وتجريح.

Ad

هكذا هو منطق الغوغائيين... لا يعترفون بجهلهم لأن نرجسيتهم تجعلهم يتوهمون كمال المعرفة، فلا داعي للمعرفة لأننا نملكها كلها، وهنا يكمن سر بلائنا، فسقراط الذي حوكم بتهمة إفساد عقول الشباب يقر بضرورة الاعتراف بالجهل، وهي الخطوة الأولى نحو المعرفة، وكلما عرف الإنسان أكثر أدرك أنه لا يعرف، كما يقال، لذا عُرف سقراط بأسئلته التي كشفت مدى جهل الإنسان بجهله، لتنطلق كل الفلسفات من هذا المبدأ السقراطي البسيط والعميق في آن واحد، فأنتجت عصر الحداثة وما بعد الحداثة، أما نحن فمنعنا الأسئلة وحرمناها حتى غرقنا بجهلنا وتوهمنا أن التفسيرات البشرية علم مقدس لا يقبل المراجعة والنقد والتمحيص لنبقى أسرى للسائد والمألوف، أما الخارجون عنه فهم في ضلال وانحلال.

عجيب هو التاريخ يا صديقتي حين يعيد إنتاج نفسه بشكل درامي ممل... ففي كل عصر يتجدد مشهد الحملات الاقصائية ضد المفكرين والإصلاحيين كتلك التي تم بها إحراق كتب ابن رشد، والتي كانت سبباً في نهضة أوروبا، لنفتخر اليوم به بعد أن نبذنا عقلانيته في تأويل النصوص الدينية... والحملة التي شنها الأصوليون ضد سبينوزا الذي سبق عصره، فدعا إلى فصل الدين عن السياسة وحرية الضمير والمعتقد التي تجلب السلام والاستقرار، لتصبح أفكاره المنبوذة آنذاك أساس النهضة التنويرية في أوروبا... لم ينكر ابن رشد وسبينوزا الأهمية الروحانية للدين، لكنهما حاربا التعصب والتحجر واستبداد رجال الدين واحتكارهم لتفسير النصوص... فأي نقد للتاريخ البشري للدين هو باعتقادهم نقد للدين نفسه، فاتُهما بالزندقة والهرطقة، ولا تزال القوى الظلامية تستهلك هذه التهم في محاولتها استئصال الآخر.

أعلم يا دكتورة أن تصفيق الجماهير ليس غايتك، فكيف تصفق لك وأنت تدخلين برجلك اليمنى حقل الألغام... وأنت تزرعين الورود في غابات الشوك؟... وأنت تعلمين أن من يمشي عكس التيار في أوطاننا يدفع ثمن الاصطدام والمواجهة الشرسة غالياً... كيف تصفق لك تلك الجماهير المحكومة بعقلية القطيع في تزييف وعيها وتحيزها وانفعالها فتندفع مع المندفعين وتنساق مع المنساقين، تلك التي لا يرتفع صوتها لذبح الأبرياء وقتل الآمنين باسم الدين، كما تفعل حين ترعد وترهب الرأي المختلف؟

فتحية لك يا شجاعة يا صادقة يا من تحملين الهوية الإنسانية... وما أصعب أن يتجرد المرء من كل الهويات المتعصبة في هذه البقعة القروسطية من الأرض.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة