قنديل أم صابر
غادر أبو صابر الدنيا قبل أربعة أشهر تقريباً، وترك وراءه أرملته أم صابر التي شقيت سنوات طويلة من أحوال البؤس وضيق الحال، وترك خلفه ثلاث بنات وولداً واحداً هو صابر، لم تجد أم صابر عوضاً في العالم غير صابر الذي التصق بأمه، وهو الصغير عمراً الكبير في الفؤاد، كانت ترى فيه العوض الجميل وهدية الرحمن عن الأب الذي رحل مبكراً، وأراد صابر بدوره أن يكون لها فرحة ولمسة حنان لقلبها التعس من صروف الزمن. كان اسمه صابر، وهو حقيقة صابر على داء السكري وهو ينهش يوماً بعد يوم من جسده، كان صابر فرحتها وبهجتها حين يدخل عليها مقبلاً رأسها، سائلاً عن أحوالها، ساعياً إلى احتواء حزنها العميق في قلبه العليل، لكن للقدر أحكامه القاسية، فالقدر الإنساني لا يعرف معنى الرحمة في كثير من الأحيان، ويهشم من غير سبب أفئدة المساكين. وخطف الموت حياة صابر في ليلة كئيبة.فجعت أم صابر بهول مصابها، كان فاجعتها الأخرى بعد فقدان أبي صابر. أصابها الاكتئاب المرضي، سقاها قسوة فقدان أقرب الناس إليها كأس "المناخوليا" المر، وهو الحزن العميق الدائم حين يلتصق بالنفس ويرفض المغادرة، عزفت أم صابر عن الأكل، غرقت في نهر الدموع، تناءت عن أسرتها وأغلقت على ذاتها في زنزانة اجترار الذكريات، تحوم في خيالاتها أطياف الذكرى مكبلة بأغلال الألم.
شقيقها علي الطبيب والعالم بأحوال النفوس التعيسة زارها في يوم من أيام حزنها الممتد، مبشراً إياها...: أم صابر هل تعلمين أنني رأيت صابر البارحة في المنام وسألني عن أحوالك؟... فهو مشتاق إلى لقائك... وتمضي بضعة أيام ويعودها الطبيب الشقيق علي من جديد ليخبرها أنه مرة ثانية زاره صابر في المنام، وقال له إنه حزين على حال أمه، وطلب منه أن يخبرها أن حزنه سيزول متى رضيت بالقدر وقضائه، وأنه بقربها دائماً... ويتمنى عليها أن تهتم بحالها، ففي ذلك علاج لروحه في فضاء الموت اللامتناهي.شيئاً فشيئاً... ومع تكرار زيارات الشقيق الوفي، وتكرار أشرطة أحلامه عن صابر، التي كانت من نسج فكره، ولم يكن لها أي ظل من الحقيقة، تحسنت أحوال أم صابر، وبدأت سلاسل الحزن تتفكك عن قلبها، وعادت لمحات البسمة إلى وجهها الكئيب بعد أن ظن الكثيرون أن الفرح غادرها بلا وعد بالرجوع.هذه حكاية ليست من نسج خيالي، وإنما هي حقيقة أعرف بطلها الطبيب علي تماماً... عدلت من الأسماء، ولم أغير المعنى ولا المغزى... بمَ تذكر القارئ هذه الحكاية...؟ ألا تذكرنا برواية "قنديل أم هاشم" ليحيى حقي... فإسماعيل بطل الرواية طبيب العيون العائد من الغرب لم يستطع بعلمه أن يشفي عين خطيبته بسبب إصرار أهله على معجزات زيت القنديل، حارب د. إسماعيل خرافة زيت قنديل أم هاشم القابع في مسجد القرية، فخسر العلم معركته حين واجه المعتقدات الراسخة لأهل القرية من دون أن يحضر لمعركة العلم مع المعتقد الروحي، فلم يكن من المعقول أن تخاطب العقول البسيطة بما تعجز عن قبوله مرة واحدة... لابد من مسايرة الوهم... لابد أحياناً من التنازل قليلاً عن "حداثة" العلم... حين تواجه سطوة الإيمان بالوهم... كم نحتاج أحياناً إلى القليل من الخيال الخلاق كي تشفى النفوس المريضة.