سطوة غالية الثمن!
لا أظن أن هناك جهازاً غيّر من طبيعة التواصل الأسري، وأثر في تفتيت بنية ولحمة العلاقات الأسرية كما فعل التلفزيون، خصوصا بعد انتشار المحطات الفضائية، ودخول المستقبلات Receivers عالية التقنية إلى كل غرفة، وبما يمكّن المشاهد الفرد، من متابعة مئات المحطات العالمية المتخصصة، في مختلف فروع الأنشطة الإنسانية.لقد دمر التلفزيون جزءاً كبيراً من مودة ووصل أفراد الأسرة، وحلّ البرنامج الخارجي محل الحكاية الأسرية الخاصة، وانتقل بالجو الأسري الحميمي إلى اجتماع صامت حول شاشة وحدث خارجي محايد. وتمثل فعل التلفزيون المدمر في فرض حالة من الصمت والمتابعة المتحفزة بين أفراد الأسرة، فالجميع منجذب ومشدود إلى خبرٍ أو خطاب أو مسلسل أو فيلم أو مباراة، وكلٌ يتابع بطريقته الخاصة، حتى أن انسحاب وغياب أحد أفراد الأسرة، بات شيئاً لا يُحس به. ومن هنا جاءت الصيحات الاجتماعية المتواصلة، في مختلف دول العالم، التي تنادي بإبعاد التلفزيون عن تجمع الأسرة، ولو ليوم واحد في الأسبوع. ولقد أخذ الأمر منحى أكثر سوءاً بوجود أجهزة الكمبيوتر الشخصي المحمولة Lap Top، صغيرة الحجم، ودخلت مؤخراً أجهزة التلفونات النقالة المتطورة، والرسائل القصيرة sms، لتوجه ضربة قاصمة إلى التجمع الأسري اليومي، وإلى الوصل بين مختلف أفراد الأسرة.
بفضل ثورة المعلومات والاتصالات، يعيش العالم عصر الانفتاح الإعلامي والتكنولوجي والفكري والثقافي والفني. مما جعل نزول أي جهاز صغير إلى أسواق مدن الدول الصناعية الكبيرة، ما يلبث أن يأخذ طريقه للانتشار العالمي في كل قرية من أرجاء المعمورة، حتى ليشعر المرء أحياناً أن العالم بات أصغر بكثير مما تحتاج إليه الطائرات، برحلاتها الجوية العابرة للقارات. إن إنسان القرن الواحد والعشرين لا يستطيع أن يعيش معزولاً عما يحيط به، من اكتشافات وأحداث عالمية، لكنه من جهة أخرى في حاجة أكبر إلى احترام خصوصيته، من خلال الانتماء إلى بيئته، بدءاً بوصله بأفراد أسرته، مروراً بإلمامه بأحداث مجتمعه، وربما هذا وحده كفيل بزرع حالة من الدفء الأسري والرضا عن النفس والاستقرار، وإبعاد شبح الغربة والقلق والاكتئاب الملازم لشخصية إنسان المجتمعات العصرية.إن طرق معيشة الجيل الناشئ والشباب، تظهر الكم الهائل من الغربة والتغريب الذي فرضته التقنيات الحديثة على حياته، حتى أنها ضربت طوقاً من العزلة المختارة حوله، وبات الشباب يعيشون عالمهم الخاص بأسرارهم المربكة، وعزلتهم وسط أسرهم، دون أي انتماء إلى لحظات أفراح وهموم هذه الأسرة.إن انتشار أجهزة التلفونات النقالة، بموديلاتها وخدماتها المتطورة، ولّد ملمحاً وشكلاً خاصاً على السلوك الشخصي، وأوجد في المقابل نمطاً معيناً من التعاملات الاجتماعية المترتبة على ذلك. ولقد طال هذا السلوك وذلك النمط الجميع، ولم يعتق أحداً من آثاره بدرجة أو بأخرى. مع الأخذ بعين الاعتبار أن دخول أي جهاز، كبيراً أو صغيراً، إلى حياة الإنسان، بقدر ما يقدم خدمة للإنسان، بقدر ما يأخذ شيئاً عزيزاً في مقابل ذلك، وليس أصدق قولاً من كون الإنسان عبداً لما اعتاده.