دم فارس المظلوم «برقبة العرب»
كتبت هذا المقال بعد يوم واحد من آخر حلقة من مسلسل الجرائم الإرهابية الصهيونية، وقد وضعت في يوم الاثنين سيناريو معين لتناول مقال اليوم، لكن ذلك السيناريو ذهب أدراج الرياح بعد منتصف الليل بعدما شاهدت إعادة حلقة البرنامج المميز "وللقصة بقية" على قناة "الجزيرة"، فقررت تغيير مجرى المقال والبدء بهذه القصة لأنها تبين أحد أوجه المعاناة الغائبة عنا.وقصة ذلك اليوم- من إعداد المتميز تامر المسحال- كانت لطفل اسمه فارس مظلوم (اسم على مسمى) وهو الذي ولد عام 2007 في غزة لوالدين حديثي الزواج، وعانى منذ ولادته مشاكل في القلب ألزمته فراش المستشفى مع أن حالته كانت تستدعي إرساله إلى خارج غزة للعلاج.
التقرير عرض عدة صور لمعاناة فارس وأهله، خصوصا بعد سنتين من ولادته عندما ساءت حالته بشكل كبير مما أدى إلى موافقة السلطات الإسرائيلية أخيرا على إدخاله إلى مستشفى إسرائيلي للعلاج. في ذلك اليوم ذهب الأب لاستخراج التصاريح اللازمة للسفر، وكم كان فرحا كما أظهر التقرير عندما استطاع استكمال الأوراق دون تعقيد، لكن الأمور تعقدت من جديد عندما تدهورت حالة فارس بشكل أكبر، وكانت الكاميرا تلاحق الأم القلقة جدا وقت وصولها للمستشفى لتفقد "ضناها" والتي انهارت على الأرض بعدما رأت أن شمعة فارس انطفأت وسلمت الروح إلى بارئها وسط دموع الأب الذي لف جسد فلذة كبده حسرة في مشهد تراجيدي يسيل له نهر الدموع- لا القطرات فقط- من عيون من يشاهدها. إنه مشهد يصعب تخيله فما بالكم بمن يشاهده، خصوصا إن كان أبا أو أما، ولذلك لم يكن غريبا أن تبكي مذيعة "الجزيرة" فيروز زياني عند مقابلتها للأم الموجوعة على الهواء قبل عام حين حلت المصيبة. طبعا لن نركز كثيرا على إدانة العدو الصهيوني على ما حصل للطفل فراس، وحصاره القاتل للقطاع منذ ثلاثة أعوام، وعمليته الإرهابية الأخيرة ضد مدنيين عزل يمثلون أكثر من أربعين دولة لأن الإجرام هو ديدن هذه الدولة اللقيطة المارقة التي أسستها مجموعة من الإرهابيين والسفاحين. ولن نركز أيضا على دول النفاق العالمي التي تدعم الكيان الغاصب لأنها عودتنا على الكيل بمكيالين وبوقاحة. فتراهم "يأسفون" و"يقلقون" فقط على القتل الذي قام به الصهاينة لكن لو كان العكس هو الصحيح، وتعرض إسرائيلي واحد لجرح بسيط لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها، فكل ذلك مفهوم في عالم تحكمه شريعة الغاب، وتبحث كل أمة فيه عن مصالحها الخاصة حتى لو على حساب الآخرين. لكن بالله عليكم كيف نفسر سكوت النظام العربي على حصار بني جلدته؟ وكيف نفهم اصطفاف هذا النظام مع أجندة ضد مصالح أمته ومقاومتها الباسلة؟ فلولا سكوت العرب عن الحصار لما مات فارس انتظارا لموافقة إسرائيلية للعلاج، ولولا مساهمة العرب في هذا الحصار لما اضطرت قوافل الحرية للإبحار إلى غزة والمخاطرة بحياة المئات على متنها من أجل إيصال المساعدات الإنسانية.ترى ألا نخجل نحن العرب من تبريراتنا المتكررة لعدم رفع الحصار طيلة السنوات الماضية؟ وترى كيف استطعنا النوم كل ليلة ونحن نرى معاناة وبؤس- وأحيانا موت- مليوني إنسان، وكيف تقبل الشعوب العربية بهذا الوضع المتخاذل طيلة هذه المدة؟إن العرب مذنبون أكثر من الصهاينة والدول العظمى من جراء هذا الحصار لأن "ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من الحسام المهند" كما يقول الشاعر، والعرب مشاركون في إسالة كل دم بريء في هذا القطاع منذ ثلاث سنوات إلى الآن، وإن كان الكيان الصهيوني يرتكب مجازره ويفرض حصاره على غزة حماية لوجوده ومصالحه، فلا عذر للعرب في الوقوف في صف هذه الأجندة المضادة للمصالح العربية والإسلامية، ولا عذر لنا من استمرار جرينا وراء وهم عملية السلام وتشبثنا بما يسمى بالمبادرة العربية للسلام؟ فالعيب فينا وتغيير الأمور بيدنا متى ما قررنا ذلك في عالم لا يحترم إلا القوي والحر. الآن أعود لأكمل قصة البداية، حيث رزق الوالدان المظلومان بمولود جديد معافى أسموه فارس أيضا، لكن أتمنى ألا يعاني فارس الجديد وبقية أهالي القطاع أكثر بسبب هذا الحصار المنافي للإنسانية.