على امتداد الساحة الدولية من الولايات المتحدة الأميركية في الغرب، إلى إندونيسيا في أقصى الشرق، وعبر ثقافات مختلفة مسيحية-ليبرالية مستعادة، وهندوسية متأرجحة، وإسلامية حذرة، يمكن للراصد أن يلاحظ مؤشرات دالة على تراجع قوى التطرف أمام تيارات الاعتدال (رغم بقاء «بؤر» قابلة للاشتعال هنا... وهناك).

Ad

ففي الولايات المتحدة، أقوى دول العالم، كان انتخاب رئيس غير أبيض ومن أصول إسلامية «انقلاباً» في التقاليد السياسية الأميركية، في وقت تراجع فيه «المحافظون الجدد»- وهم يمين متطرف- ولم يعودوا يسيطرون لا على البيت الأبيض ولا على الكونغرس، مخلين الساحة اضطراراً لعناصر «ليبرالية» من الحزب الديمقراطي المعروف بكونه ملاذ «الأقليات» من زنجية ويهودية ومسـيحية متحررة أو غير ملتزمة، ومن الحكمة إعطاء هذا التحول فرصته، لمصلحة الجميع، والتخلص ولو مؤقتاً من عقدة كراهية أميركا التي لا يساءل عنها الرئيس أوباما.

وفي السعودية، يقود الملك عبدالله بن عبدالعزيز سياسـة تغيير إصلاحية تراعي سنن الله في التجديد، المنشود إسلاميا، وتلبي تطلعات التطور لدى أغلبية السعوديين، وتحاور العالم أدياناً وثقافات من موقع الثقة بالنفس.

وفي إندونيسيا أكبر الدول الإسلامية تعداداً جاءت الانتخابات الأخيرة لغير مصلحة الأحزاب الدينية المحافظة، وكان تراجعها من 38% في الانتخابات الماضية عام 2004 إلى 26% هذا العام «رغم بقاء تمسك الإندونيسيين بالإسلام» (د. عبدالله المدني «الأيام»: 10/5/2009م).

على صعيد إسلامي آخر، وكما كشف وزير الخارجية الروسي أخيراً، بعد مقابلة خالد مشعل، فإن «حماس» صارت أكثر واقعية في النظر إلى توازن القوى في المنطقة وتوقفت صواريخها على إسرائيل، ويبقى أن كان «الإخوان المسلمون» بعامة قد قبلوا هذا التحول، في الأقطار التي لهم تأثير بها.

وفي الكويت، أقدم الديمقراطيات الخليجية، كانت مفاجأة الانتخابات البرلمانية تغييرا لافتا في الخارطة السياسية لمجلس الأمة بانتخاب أربع نساء «تقدميات» دفعة واحدة، للمرة الأولى في تاريخ الكويت- بعد أن أصبحت المرأة مرشحة وناخبة في جارتها البحرين- وتقدم «الليبراليون» والعناصر المستقلة مقابل الدينيين المحافظين من مختلف الأطياف. وقد طغى في الكويت حديث انتخاب المرأة للبرلمان على حساب ظاهرة مهمة أخرى: وهي فوز الوطنيين الكويتيين الشيعة على سواهم في المجال الشيعي، أو كما وضعت الأمر صحيفة «الأيام» البحرينية: بأنه قد رجحت كفة الكويتيين الشيعة على الشيعة الكويتيين!

وتعزز النتائج الكويتية البرلمانية الجديدة توجهات «الإصلاح» بقيادة الملك في البحرين التي تستعد دون تقطع لدورتها الانتخابية الثالثة العام المقبل- لأول مرة في تاريخها- انتظاراً لنتائج مماثلة أصبحت بمنزلة التطلعات الملحة لشعوب الخليج العربي.

وضمن هذا السياق تواصل الملكيات الدستورية العربية تطوير نفسها كما يشهد المغرب والأردن والبحرين، وهو سياق لا يمكن أن يأتي بغير الاعتدال.

وفي الهند، ذات الأغلبية الهندوسية، والتي توصف بأكبر الديمقراطيات في العالم- بحكم كثافة السكان وتحولت إلى قوة اقتصادية متقدمة ذات وزن، وقوة عسكرية إقليمية مؤثرة- فاز في الانتخابات الأخيرة، مرة أخرى، حزب «المؤتمر الهندي»-حزب نهرو- المعروف بميوله الليبرالية والتعددية المنفتحة مبعداً حزب «جناتا» الهندوسي المتطرف عن تسلم السلطة التي كان حريصاً على تسلمها، خاصةً بعد أحداث مومباي الإرهابية التي قامت بها عناصر باكستانية تنتمي إلى الإسلام، وزادت التخوفات من صعود التطرف الهندوسي في وجه ذلك.

وكان فوز «المؤتمر» في الدورة الأولى عام 2004 موضع ترحيب الكثيرين في المنطقة، وأفردت له مجلة ثقافية شـهرية رصينة كالعربي الكويتية افتتاحيتها بقلم رئيس تحريرها: «بينما العالم يموج بالصراعات... (و) المنظرون العالميون يغرقون كوكب الأرض بالنظريات الاستئصالية من نوع «صراع الحضارات» و«نهاية التاريخ» والتكريس لعالم يغلي بالتعصب... في هذا العالم الراهن... تفجر الهند قنبلتها الديمقراطية الرائعة، إذ تقرر الأغلبية من فقراء الهند اختيار حزب لا يلعب على أوتار الطائفية والعرقية، وهو حزب المؤتمر، الذي تقوده امرأة غربية المنشأ هي سونيا غاندي، ثم تتوالى التداعيات، فيختار الحزب الفائز... رئيساً للوزراء من أقلية طائفية هي السيخ (المتخرج من أكسفورد). فكأن الهند تقول عبر ديمقراطيتها: إن المواطنة هي الأساس وكفاءة العمل هي مناط الاختيار أما التنابذ العرقي والطائفي فهو طريق الشيطان، الذي لم يثبت أنه قدم خيراً للبشر، خاصة الفقراء منهم، وغير الفاسدين» (د. سليمان العسكري – عدد سبتمبر (أيلول) 2004م). وإلى الشرق، تستمر الصين في صعودها الهادئ كقوة حكمة واعتدال، توازن القوة الأوروبية المعتدلة في الغرب في كفتي ترجيح لنمو الاعتدال في العالم. وتطلب واشنطن من بكين، إلى جانب الرياض، دعم باكستان لإخراجها من دوامة العنف المهددة لكيانها.

وفي سريلانكا، إن لم يكن انتصر الاعتدال بعد، فقد توقف العنف المتمثل في حرب أهلية عصفت بها لربع قرن. ودفع «نمور التاميل» ثمن أعمالهم الإرهابية المتمثلة في اغتيال راجيف غاندي رئيس وزراء الهند التي كانت تدعمهم، ثم في اغتيال رئيس سريلانكا ثم وزير خارجيتها مما أفقدهم تعاطف العالم. والتطور الجديد ثمرة التقاء هندي-صيني نادر لإعادة الهدوء إليها. (أما «الكلفة البشرية «للنزاع فقد دخلت، كالعادة، في ذمة الضمير العالمي!).

وثمة انتخابات قريبة جداً في إيران ولبنان، علينا انتظار نتائجها. بينما مؤشرات «الاعتدال» السوري واضحة للعيان ولم يقف عقبة أمامه غير العدوان الإسرائيلي على غزة، ثم مجيء حكومة يمين متطرف وعنصري في إسرائيل.

وعبر بوابات عربية، من بينها البوابة السورية تعود تركيا إلى مجالها الطبيعي وجوارها الأصيل العربي والإسلامي في ظل حكومة إسلامية معتدلة تتعايش مع المعطيات «التحديثية» التركية ولا تعمل على «قطيعة» مع مجالها الأوروبي القريب منها عاملة على الانضمام إلى المنتدى الأوروبي الذي يخطئ إذا أغلق أبوابه في وجهها آملين أن تسهم محاضرة وزير خارجية بريطانيا في المركز الإسلامي بأكسفورد- أخيراً- في فتح الأبواب المغلقة. ... ولكن على عالم «الاعتدال» رغم كل ذلك «تأجيل الحفلة» حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود! فقوى التطرف قد تلقت «الضربة والدروس» ويمكن أن ترد، ولو بعد حين، بهجوم مضاد... ولابد من التأكد إن كانت هذه نهاية التطرف أم مجرد استراحته!

إن معارك «الحسم» أو التي يفترض أن تكون حسماً، مازالت دائرة في كل من باكستان (التي يتزايد القلق بشأن مصيرها) والصومال. والدوائر تدور... والجانب المهزوم عسكرياً هذه اللحظة، قد يعيد تجميع قواته للرد في جولة جديدة، مثلما تفعل طالبان في أفغانسـتان اليوم بعد «الانتصار» الغربي الذي أطاح بها قبل سنين. ويجمع المعنيون بشؤون الصراع في العالم أن الحل «العسكري» أو «الأمني» وحده ليس حلاً ولابد من معالجات أخرى. وها هو ذا «الانتصار» العسكري الإسرائيلي في حزيران/يوينو 1967 (الذي تمر علينا ذكراه الكئيبة غداً) لم «يحسم» الوضع الفلسطيني، أو وضع السلام في الشرق الأوسط. وبلا ريب فإن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية من أسباب التطرف وستزيده سياسات الحكومة الإسرائيلية الجديدة إن أصرت على مواقفها. وعلى العرب والمسلمين التنبه إلى أن الإصرار على إبراز فئوياتهم وعصبوياتهم القزمة الضيقة تعطي- بالمقابل- أفضل مبرر لدعاوى «يهودية» إسرائيل، فليعتبر أولو الألباب!

إن التطرف لم يتم اجتثاث جذوره: فمع المسلك الإسرائيلي، ورغم تراجع الأزمة المالية العالمية، فإن ملايين الذين فقدوا ويفقدون وظائفهم في العالم يمثلون احتياطياً مخيفاً لعنف مقبل لا نعلم مداه.

كما أن التوتر في الشرق الأقصى بين كوريا الشمالية- التي تسعى إلى مكاسب سياسية بسلوكها النووي والصاروخي- وجاراتها والعالم لا يوحي بالثقة.

ثم يبقى عامل «الخوف» المتبادل بين الأطراف المتجاورة أو المختلفة من أسباب ذلك، ونعتقد أنه من «محركات» التاريخ. فسباقات التسلح المضنية والمؤدية إلى الحروب سببها عامل الخوف كما يشهد منذ سنين الشرق الأقصى والخليج، وكما حدث في أوروبا القرن العشرين... ولهذا تبدأ عمليات «التهدئة» بمد جسور «بناء الثقة»، أي التقليل من الخوف، فهل لدى الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في رحلته الشرق أوسطية، بلسماً لهذا كله أو بعضه... عندما يتم الانتقال من الإعراب عن النوايا الطيبة إلى العمل الصالح؟ هذا ما نأمله.

* مفكر من البحرين

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء