-1-

Ad

أصبحت الديمقراطية في العراق اليوم، ككرة النار الملتهبة، التي لا يريد أحد من السياسيين العراقيين اللاعبين الآن أن يحتفظ بها، أو يُضحي من أجلها، فهم يتقاذفونها من واحد إلى آخر، قبل أن تحرق أيديهم، منذ إعلان نتائج الانتخابات التشريعية العراقية الأخيرة في الأسبوع الماضي، بل دعونا نقل، منذ أن خفّت أعمال الإرهاب الديني والطائفي العراقي، بعد انتخابات عام 2005، وتأكد أعداء العراق الجديد بألا سبيل إلى الرجوع إلى الوراء. وأن عجلة التاريخ تسير دائماً إلى الأمام، ولا ترجع إلى الخلف، وأن تقرير مصير الشعوب يتمُّ في المستقبل، وليس في الماضي أو الحاضر، كما يؤكد لنا المفكر التنويري المصري مراد وهبة، في كتابه «مُلاّك الحقيقة المطلقة».

-2-

فالديمقراطية وعي لمسؤوليات الحكم، وممارسة بصيرة لها، كما أن الديمقراطية تتطلب أقصى جهد مشارك في الحياة العامة من جميع المواطنين.

فهل تحققت الحياة العقلية المقنعة في المجتمع العراقي الذي يعتبر جزءاً لا يتجزأ من المجتمع العربي، ومجتمع العالم الثالث، أم أن هذا المجتمع لايزال مجتمعاً تتحكم به العواطف والأهواء والارتباطات الطائفية والعشائرية، كما شهدنا في انتخابات 2005، وانتخابات 2010 بالأمس كذلك؟

وهل أصبح هذا المجتمع مجتمعاً تعاونياً مشاركاً، ولم يعد مجتمعا فردياً، تسيطر عليه المصالح الفردية، ويسيطر عليه المال السياسي، الذي يتدفق من معظم الجيران؟

-3-

الديمقراطية ليست حلاً سحرياً لكل مشاكل العراق السياسية والاجتماعية والثقافية المتأصلة فيه، منذ قرون طويلة، ولكنها المناخ، أو الوسط، الذي يُرسّخ العقلانية، ويسمح بمناقشة كل القضايا، تمهيداً للوصول إلى أفضل الحلول. والديمقراطية هي الصيغة التي تخلق توازناً، تفرضه موازين القوى دون إلغاء الآخر، وهي التي تساعد على الانتقال العادي المتدرج، والمنطقي، وهذا ما يجب أن يفهمه الجميع بوضوح، سواء من كانوا في الحكم، أو في المعارضة، فإذا لم يُفهم أو يُقبل، كما هي الحال الآن في العراق، فسوف يكون الثمن غالياً وربما فاجعاً أيضاً.

فعلينا أن نعلم تماماً، أن الديمقراطية نظام ممارسة سياسية تؤسسه أولويات الفلسفة السياسية الليبرالية. وتؤسسه فلسفياً في دائرة العقلانية، وتقعِّده قانونياً، وتصنع له- اجتماعياً وتاريخياً– المؤسسات، والمعايير المتغيرة، والنسبية.

-4-

إن الديمقراطية ليست حلماً مجرداً، وليست أمنية من الأماني الرومانسية العزيزة، بل نتاجاً لعلاقة قوى سياسية فعلية، والديمقراطية خبرة، وإدارة، ودراية، ومراقبة مستمرة مرتبطة بالمنفعـة العامة، وممارسة عقلانية في الحياتين الخاصة والعامة. ومن شروط الديمقراطية: التنشئة على إعلاء قيم العقل، والحرية، والفكر، والسلوك المستقلة، وإن الديمقراطية هي مشروع المعقول الاجتماعي، وموضوعها المشاركة السياسية، بحيث يكون الحكم (السلطان والسلطة) وسطاً بين الناس، وبحيث يتم الترابط بين العاقل والمعقول في وحدة مشروع العقل السياسي ذاته.

فهل ما يجري في العراق الآن هو كذلك، أم أن الديمقراطية في العراق الآن عبارة عن كرة نار ملتهبة، يتقاذفها الساسة، ولا يريد أحد أن يبقيها في يده حتى لا تحرقه نارها في تخلّيه عن السلطة؟!

وهل ما نشاهده الآن في العراق تصديق لقول آخرين، من أن الديمقراطية مجرد مغامرة تاريخية، ولعبة في أيدي الديمقراطيين الغربيين والطغاة الشرقيين على السواء، وتحتاج إلى جهاد مع النفس التي كثيراً ما تسوّل للسياسيين بالتراجع عن الديمقراطية، وهم في بداية المسيرة، أو في نصفها، وهو ما نراه الآن في العراق؟

-5-

علينا ألا نيأس من شروق فجر الديمقراطية في العراق، فنحن مازلنا في البداية، والطريق شاق وطويل، ومليء بالحفر، والعثرات، والألغام التي يزرعها العرب والعجم الرافضون للديمقراطية، والمهددة لمصالحهم في العراق.

يقول المفكر التونسي العفيف الأخضر، إن الديمقراطية كالحداثة، مشروع لا يكتمل، فهي إذن مسار تدريجي، والتاريخ يقول إن الديمقراطية لم تولد كاملة حتى في مسقط رأسها، في الغرب، بل مرّت- ولاتزال- بتطورات متلاحقة تتدرج بها، في كل مرحلة، من الأدنى إلى الأعلى.

فالديمقراطية البريطانية لم تبلغ درجة شرعيتها إلا في 1918، عندما انتقلت من اقتراع الأغنياء (حوالي 3% من السكان) إلى الاقتراع العام، والديمقراطية الفرنسية لم تبلغ شرعيتها إلا في 1944، عندما اعترفت للمرأة بحق التصويت، والديمقراطية الأميركية لم تبلغ ذلك إلا في 1962، عندما اعترفت لمواطنيها السود بحقوقهم المدنية، ومع ذلك فمازال الطريق طويلا أمام هذه الديمقراطيات العريقة لتدارك نقائصها، والخروج سالمة من أزماتها بحل تناقضاتها الاجتماعية-السياسية، وإن خير ما في الديمقراطية هو التداول- تداول النخب والأجيال- على الحكم، وشر ما في الاستبداد خاصة في صيغه العربية الإسلامية، هو الديمومة.

-6-

ونعود، لنركِّز على نقطة مهمة، وهي أن العراق ليس طبقاً هبط من السماء، العراق جزء من العالم العربي رغم كل الاعتبارات، وعوائق الديمقراطية فيه هي نفسها العوائق في العالم العربي، ومنها:

1- عدم احترام قيمة الإنسان العربي، وغياب التعليم الحديث، وغياب المؤسسات الدستورية، واستمرار الصراعات الطائفية والقبلية والدينية، واختفاء قوة الطبقة الوسطى، وتأصيل الروح الطائفية والعشائرية بين الأحزاب السياسية، وحصار الإنسان العربي في ثالوث مُتكلِّس، يتمثّل في الأيديولوجية المُطلقة (الدوجما)، والمؤسسة الدينية، والدولة المتخلفة.

2- سيطرة المؤسسة الدينية على القضاء، والتعليم، والأحوال المدنية، وتحريف موضوع الجهاد من معركة لإقرار الديمقراطية إلى حرب ضد الأديان الأخرى، والتركيز على أداء الطقوس، وإقامة الحدود أكثر من التركيز على إقامة العدل.

3- عدم إيمان الأحزاب السياسية بالديمقراطية، واتخاذها مجرد شعارات فقط، وأن الديمقراطية– برأي كثيرين- مجرد قاعدة متقدمة للغرب في الشرق، وتحويل الممارسات الديمقراطية إلى فوضى سياسية، كما هي الحال الآن في العراق.

فهل ما يجري في العراق الآن، هو «العلْمانية السياسية» التي قال عنها مكيافيللي، إنها «لا تستند إلى قيم دينية، أو أخلاقية مطلقة، وإنما تستند إلى المصلحة، والمنفعة الخاصة؟».

* كاتب أردني

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة