لاشك أننا غالباً ما نغرم بالتصنيفات ونتائج المسابقات وأي من عمليات الفرز، التي ترتب القوى الفاعلة، سواء كانت عمليات أو منظمات أو أفرادا أو دولا أو منتجات، وفق اعتبارات معينة، تدرجها في قائمة ما... من الأثرى إلى الأقل ثراء، أو من الأقوى إلى الأقل قوة، أو من الأجود إلى الأقل جودة، وهكذا.
ومن ذلك، أننا بتنا نحفل كثيراً بالقوائم السنوية التي تصدر عن فعاليات شتى، محددة أفضل الأفلام، أو أهم المطربين، أو أكثر الأحداث إثارة خلال العام، أو أكثر عشرة منتجات رواجاً، أو أغلى عشرة لاعبي كرة قدم ثمناً، أو أكثر مئة سيدة أناقة أو جمالاً أو قبحاً، أو أهم مئة شخصية في العالم، وغيرها؛ إذ تخاطب تلك القوائم مناطق في نفوسنا ونزعات قوية، تحضنا عادةً على تأطير الكيفي والموضوعي والمتغير، وسحبه إلى حيث يكون كمياً شكلانياً يمكن تثبيته للحظة وتفحص حاله وموقعه في المنافسة.ليس هذا بالطبع أمراً مقتصراً على عالمنا العربي، ولكنه ربما أكثر نمواً وازدهاراً في بيئته الأكثر طبيعية... هناك في الغرب، حيث تحتل الأدلة والتصنيفات والقوائم المتدرجة الناتجة عن المسابقات والمهرجانات مكانة مهمة، وتحظى بأكبر فرص الرواج والنفاذ، ويتعلق بها الجمهور وينتظرها باحتفاء كبير؛ لكونها أكثر تعبيراً عن حال النزوع المادي، وأكثر ملاءمة لثقافة تعليب القيم وتشييء المعاني من جهة، وأوثق دلالة على الأطر التي تحكم المجال العام وتشكله، وأشد نجاعة في كشف أولويات الجمهور واتجاهات ذائقته من جهة أخرى. لكن الإنصاف يقتضي القول إن المقاربة الغربية لمثل تلك القوائم والتصنيفات تحظى بقدر من الضبط والدقة والنزاهة معتبر، وتتم من خلال عمليات تتمتع بتقاليد محترمة في جمع البيانات وتصنيفها وفحصها وتحليلها، وتنحو إلى قدر من الموضوعية والحياد والتجرد في عمليات الفرز، بما يقلل إلى أقصى درجة ممكنة من العوار الهيكلي الذي يتجسد في نهجها الأساسي في تعليب القيم والظروف الموضوعية وتسليعها.ولذلك، فلم يكن مستغرباً أن تحظى بعض وسائل الإعلام ومراكز البحوث الغربية باهتمام كبير حين تطلق تصنيفاتها السنوية المتعلقة بترتيب الأهمية أو الثراء في مجالات عدة، بل بات من المتعارف عليه أن يتم استخدام تلك التصنيفات لاحقاً في عمليات البحث الاجتماعي والتحليل المالي والاقتصادي كمصادر أولية لمعلومات ذات قدر من الصدقية يمكن التعويل عليه.ويمكن رصد الكثير من تلك المؤسسات التي باتت ذات باع طويل في هذا المجال؛ مثل "إنستيتيوشنال إنفستور" Institutional Investor، التي تقدم تصنيفاً عالمياً سنوياً لأقوى الشخصيات في القطاع المصرفي، ومجلة "تايم" Time، التي تنشر قائمتها السنوية لأقوى مئة شخصية في العالم، بعد أن تصنف أصحابها إلى خمسة مجالات؛ هي: ("القادة والثوار" و"الأبطال والرواد" و"العلماء والمفكرون" و"الفنانون والمغنون" و"البناؤون والجبابرة").وهناك أيضاً مجلة "يوروبيان بيزنس" European Business، التي تصنف المئة الأكثر ثراءً في القارة الأوروبية، وترصد ممتلكاتهم، وكذلك صحيفة "التايمز" The Times البريطانية، التي تنشر قائمة للأشخاص الأكثر تأثيراً في قطاعات الأعمال في مناطق العالم المختلفة، ومجلة "فوربز" Forbes الأميركية، التي تنشر قائمة بأكثر الأشخاص ثراءً، وكذلك تفعل مجلة "فورتشون" Fortune المتخصصة في شؤون الاقتصاد وإدارة الثروات.وهنا يثور السؤال: هل نحن بحاجة في عالمنا العربي إلى مثل تلك القوائم؟الإجابة هي نعم. مرة لأننا بحاجة ماسة إلى المزيد من تدفق المعلومات عن الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ومرة أخرى لأننا بحاجة إلى معرفة مراكز النفوذ والثروة والنفاذ في عالمنا العربي، خصوصا في ما يتعلق بمجالات التأثير العامة وصنع الرأي العام وبلورته وصياغة توجهات الجمهور وتشكيل ذائقته وبناء وعيه ووجدانه، لاستشراف الفرص والمخاطر في هذا الإطار، والعمل على تقويم أي انحراف أو ميل يمكن أن يعمق أزماتنا أو يحرفنا عن أولوياتنا وقضايانا الجادة. ومرة أخرى، لأن إعلان نتائج مثل تلك التصنيفات يمكن أن يكون حافزاً ومثيراً جاداً معتبراً في مجالات التنافس ذات الوجاهة، وبحيث تمثل قيمة وإغراء في حد ذاتها؛ فتحض المتبارين على بذل المزيد من الجهد والعرق، لاحتلال المكانة الأفضل، سواء في البناء أو الفكر أو الإبداع أو الثقافة.أما آخر ما يمكن أن نكون بحاجة إليه في عالمنا العربي، فهو أن تتحول تلك التصنيفات إلى أدوات انتهاز واحتفال وأنشطة ترويج ودعاية؛ لأن ذلك لن يفقد الجمهور اليقين في صدقيتها فقط، لكنه أيضاً قد يزعزع ثقة المجال العام كله بقيمة العمل والإنجاز والمكانة ذاتها.في نهاية شهر مارس الماضي، صدرت قائمة مجلة "أرابيان بيزنس" لأقوى مئة شخصية في العالم العربي، حيث حظيت باحتفاء كبير، وتم نشرها على نطاق واسع، وتعاطى الإعلام والمجال العام معها على أنها انعكاس لحقائق وأوضاع راسخة على الأرض؛ فبدت الأسئلة بصددها من نوع: "لماذا احتل فلان المكانة رقم كذا بين أهم الشخصيات العربية؟"، أو "ما دلالة أن تكون هناك كذا امرأة بين أقوى مئة شخصية عربية؟".والواقع أن تلك القائمة جانبها الصواب كثيراً، وأعدت على عجل، وحفلت بكثير من الأخطاء، ولم تخضع لعمليات تدقيق، ولم تطور وفق معايير معلنة واضحة، ولم تمتلك منهجية، كما لم يشارك في بنائها أكاديميون متخصصون.ولذلك فقد ظهر أن دولة الإمارات العربية المتحدة وهي دولة مقدرة ومنجزة وممتلئة بالقدرات والكفاءات، استأثرت وحدها بـ17 اسماً من بين الأسماء المئة، لتحتل المكانة الأولى بين الدول العربية، رغم كتلتها الحيوية الأقل نسبياً من دول أخرى كالسعودية ومصر وسورية. كما غاب عن القائمة أي سياسي أو عالم دين، رغم أن السياسيين وعلماء الدين في المنطقة من بين الأكثر تأثيراً ونفاذاً وقوة، كما أن عدداً من رجال الأعمال الذين تم اختيارهم من أصحاب ومديري الشركات ذات الأثر والمالية المحدودة نسبياً، فضلاً عن عدم إعلان المجلة الواضح عن المنهجية التي استندت إليها في اختياراتها وتصنيفاتها.يبدو أن تمركز المجلة في دبي تحديداً، وارتباطها بمصالح إعلانية معينة، ورغبتها في تفادي أي حساسيات سياسية أو دينية، وحرصها على إطلاق تصنيفها دون أعباء إنتاج كبيرة، بين الأسباب التي جعلت "داليا مجاهد" مثلا تسبق "أحمد زويل"، أو رئيس شركة طيران بسيطة يظهر على حساب رؤساء شركات طيران أكثر نفاذاً وقوة وثراءً، وممثلا متوسط القيمة يحتل مكانة متقدمة على حساب ممثلين يعمل في أدوار ثانية في أفلامهم.نحتاج إلى قوائم وتصنيفات مماثلة في عالمنا العربي للأقوى والأكثر ثراءً وتأثيراً في حياة الناس، لكن بقواعد منهجية ومعايير معلنة وتجرد ومزيد من الإنصاف والنزاهة.* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
عن قوائم الثراء والنفوذ والقوة
04-04-2010