هل ينظر القضاة إلى الإعلاميين على أنهم يؤدون دوراً مهماً، لا يقل احتراماً وضرورة عن أي من الأدوار التي تؤديها الهيئات الأخرى في المجتمع، في خدمة المصلحة العامة، أم أنهم يعتقدون أن العمل الإعلامي معوق للعمل القضائي الأهم من وجهة نظرهم؟

Ad

 في شهر يوليو من عام 2008، ذُبحت الفنانة اللبنانية سوزان تميم في شقتها بأحد أبراج إمارة دبي، في جريمة مروعة شغلت الرأي العام العربي، وتصدرت الصفحات الأولى في أهم الصحف واحتلت المساحات الأهم في برامج الفضائيات، واستأثرت باهتمام الجمهور والنخب في معظم بلدان المنطقة. لقد توافرت لتلك القضية عوامل الإثارة كافة؛ إذ اختلط فيها المال بالسياسة والجنس واستغلال النفوذ، وظهرت فيها مشاعر الانتقام والغيرة والحقد، خصوصاً بعدما وُجهت تهمة القتل إلى ضابط أمن الدولة المصري المفصول محسن السكري، وتهمة التحريض على القتل إلى رجل الأعمال البارز هشام طلعت مصطفى، والذي يشغل أيضاً منصب وكيل اللجنة الاقتصادية بمجلس الشورى المصري (الغرفة الثانية في البرلمان)، ويتمتع بعضوية لجنة السياسات النافذة في الحزب الحاكم.

ومنذ أًحيل هشام طلعت والسكري إلى المحاكمة الأولى في شهر سبتمبر من العام نفسه، إلى أن نطقت المحكمة بحكم الإعدام في حق المتهمين، في شهر يونيو الفائت، لم تكف وسائل الإعلام العربية دقيقة واحدة عن متابعة تفصيلات المحاكمة وتشريحها ونقدها والإسهاب في عرضها، باستثناء الفترة التي أصدر القاضي المختص فيها قراراً بحظر التغطية الإعلامية، بسبب ما استشعره من تأثيرات سلبية على مجريات المحاكمة ومراكز أطرافها.

والواقع أن جزءاً غير يسير من المعالجات الإعلامية لتلك المحاكمة الشهيرة، وغيرها من المحاكمات، كان سلبياً ومفتئتاً على الاعتبارات المهنية وعلى حقوق بعض الأطراف المتقاضية، وحق هيئة الحكم في فحص الدعوى بالشكل اللائق في آن.

ولذلك، فقد عاد السؤال، الذي تردد كثيراً على هامش السباق الإعلامي المحموم على تغطية تلك القضية، يُطرح مجدداً، مع بدء إعادة المحاكمة يوم الاثنين الماضي، بعد نقض حكم أول درجة، والسؤال يقول: هل يجب إقصاء الإعلام تماماً عن تغطية مثل تلك المحاكمات لضمان انتظام سيرها وعدم التشويش على هيئة الحكم والأطراف المتقاضية؟

لطالما كانت العلاقة بين الإعلام والقضاء ملتبسة وشائكة في الكثير من المجتمعات، وبغض النظر عن درجة التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي فيها؛ فالقضاء كإحدى السلطات الدستورية الثلاث، ظل ينزع نحو تكريس استقلاليته والحفاظ على تقاليد عمله وآلياته بعيداً عن ضغط الجمهور وجماعات المصالح، والإعلام، كسلطة رابعة مجازية، ذات دلالة اعتبارية، تستمد نفوذها من الجمهور مباشرة، ظل يجد في الحرية والنفاذ أفضل شروط الازدهار.

لقد وقع الصدام بين الإعلام والقضاء في أكثر من بلد وفي أكثر من حقبة تاريخية؛ فرغم أن المصلحة العامة ظلت الهدف الأسمى المفترض الذي تسعى سلطة القضاء الدستورية وسلطة الصحافة الرمزية لإدراكه، فإن الآليات التي تنتهجها السلطتان خلال عملهما تتقاطع في أحيان وتتصادم في أخرى.

وكثيراً ما نتج عن تقاطع آليات عمل القضاء والإعلام مشكلات أضرت بكل منهما، كما أضرت، من دون شك، بالمصلحة العامة، وجارت على حقوق أطراف انخرطت في صراعات وأحداث، قادتها لأن تتعاطى مع المؤسسة القضائية، وبالتالي لأن تكون موضوعاً في الإعلام.

وحينما تختل الممارسة القضائية، لأي سبب من الأسباب، في مجتمع من المجتمعات، فإن حقوقاً قد تُسلب، وأطرافاً قد تُظلم، ومصالح غير مشروعة قد تتحقق، واليقين في العدالة يتزعزع.

وحينما تختل الممارسة الإعلامية المتعلقة بأنشطة القضاء، لأي سبب من الأسباب، فإن الضغوط تتزايد على مرفق العدالة، وربما يتم حرف اتجاهات الجمهور إزاءه، وقد يُقاد القضاة إلى أحكام خاطئة، كما أن أطرافاً في النزاعات، ومنهم ضحايا ومشتبه فيهم ومتهمون وشهود، قد يُساء إليهم، ويُشهَّر بهم، وتُنتهك حقوقهم الإنسانية والقانونية.

إنها حقاً أخطاء مريعة تترتب عليها أثمان مكلفة، لكنها أبداً لا تقاس بتكاليف إقصاء الإعلام عن ممارسة عمله حيال الشؤون القضائية، لأن في إقصاء الإعلام عن مهامه تلك، أو تحجيم أدواره إزاءها، تغييباً لإحدى ضمانات انتظام عمل القضاء وفق المعايير والأسس واعتبارات النزاهة، وإغراءً بانتهاك القانون من قبل بعض ضعاف النفوس، وتجريداً للأطراف المنخرطة في النزاعات من الحماية عبر الظهور العام وإتاحة الفرص لعرض الحجج في كل الظروف، وفتحاً للأبواب أمام السلطة التنفيذية لتهيمن على القضاء أو تحد من استقلاله ونزاهته.

والواقع أن مقاربة مثل تلك القضية الشائكة تستلزم طرح عدد من الأسئلة تتعلق بالجانب القضائي؛ منها: هل يخطئ القضاة أحياناً؟ وهل تسفر عمليات التقاضي المستوفاة الصحة الإجرائية عن أحكام غير صائبة في بعض الحالات؟ وما الضمانة التي تبقى إذن لأصحاب الحقوق المهدرة إذا وقع الخطأ القضائي المفترض؟ وهل ينظر القضاة إلى الإعلاميين ووسائل الإعلام على أنهم يؤدون دوراً مهماً، لا يقل احتراماً وضرورة عن أي من الأدوار التي تؤديها الهيئات الأخرى في المجتمع، في خدمة المصلحة العامة، أم أنهم يعتقدون أن العمل الإعلامي معوق للعمل القضائي الأهم من وجهة نظرهم؟

هل تكريس اليقين في عدالة القضاء ونزاهته هدف يجب أن يسعى الإعلام إلى إدراكه في حد ذاته، أم أن توضيح الآلية التي يعمل بها القضاء، وعرض المعايير التي يلتزمها أمام الجمهور هو ما سيمكّن هذا الأخير من بناء صورة القضاء ومنحه الثقة أو حجبها عنه؟

وعلى الجانب الآخر ثمة أسئلة يجب أن توجه للجانب الإعلامي؛ منها: هل يعلق الإعلاميون على أحكام القضاء أحياناً تعليقات انطباعية غير مدروسة أو ينتقدونها أو يشيدون بها بالمخالفة للقانون؟ وهل يتصدون لمقاربة قضايا قانونية دون خبرة أو خلفية معلوماتية كافية؟ هل يتورط بعض الإعلاميين أحياناً في إهدار حقوق أطراف متنازعة حين يعتبرون المتهم مداناً، أو ينتصرون لمتقاضٍ على حساب آخر؟ وهل تسعى بعض وسائل الإعلام إلى المزيد من الرواج أو إلى تحقيق مصالح ما عبر إقامة "محاكمات موازية" لأخرى حقيقية تجري في الأقنية القضائية، بما يؤثر سلبا في القضايا المنظورة؟

لا شك أن الإجابة عن تلك الأسئلة تقود إلى التقييم السليم لدور الإعلام إزاء محاكمة تتناول قضية رأي عام، وتضم أطرافاً ذوي علاقة بالسياسة والسلطة والمال، وهو دور يجب أن يكون قائماً وفعالاً ومستمراً، لضمان الشفافية ولإتاحة الفرص للأطراف المتضررة بالنفاذ إلى المجال العام لتوضيح مواقفها إن هي شعرت بغبن أو انسداد في الأقنية الطبيعية. وفي ذات الوقت، يجب أن تتم المقاربة الإعلامية بصورة مهنية تتوخى اعتبارات النزاهة والصدق والدقة والتوازن، وأن تبتعد عن الانحيازات المسبقة وأنماط الأداء المشينة التي تستهدف تحقيق الرواج مهما نالت المعالجة من القيم والاعتبارات المهنية وحقوق الأطراف.

* كاتب مصري