«الكتابة لا تحتاج إلى من يسأل عنها، ولا إلى من يبررها. إنها الكتابة فحسب. الكتابة التي لا غاية لها سوى نفسها» ص204، انطلاقاً من هذا الوعي بدور الكتابة، يمكن فهم الإصدار الأخير للشاعر عبده وازن، عن الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010، الذي ابتعد عن تجنيس عمله أدبياً، فليس على الغلاف ما يشير صراحة إلى أن الكتاب رواية، أو نص، أو سيرة ذاتية. مادة الكتاب تنساب بصيغة اعترافات حميمة لرجل خاض عملية «القلب المفتوح» الجراحية، ولأنها كانت خطاً فاصلاً بين ما سبقها وما لحقها، فإن ذكرياتها المتداخلة، تجيء بمنزلة عربون معاودة الدخول إلى دوامة الحياة.

Ad

«قلب مفتوح» نص أقرب ما يكون إلى السيرة الذاتية، مكتوب بصيغة ضمير المتكلم، حاملاً تفاصيل عملية جراحية خاضها عبده وازن، دون سابق إنذار، لتقدم له معنى جديداً عن وجوده في الحياة، حين يصبح هذا الوجود مهدداً في مقابلة الموت. وكيف أن الموت قادر على خلق معادلته الخاصة، وكشف قيمة الحياة الحقيقية، وقيمها الإنسانية الجميلة، وكيف أن تهديد الموت والغياب يعيد المعنى إلى كثير من ممارسات الحياة اليومية.

إن البوح المنساب في «قلب مفتوح»، وبقدر ما يخص صاحب التجربة، يقدم تجربة جيل بأكمله، جيل من أبناء لبنان مربوط بمشاعره إلى ذكريات ومواجع ماضيه القريب، ومشدود بأحلامه العريضة لمعانقة واقع قائم. لذا فإن مادة الكتاب، تبدأ بالخاص، وتنتهي بالعام. تبدأ بهجمة المرض المباغتة التي تريد أن تسلب الحياة من صدر صاحبها، وتنتهي بالكتابة بوصفها سر الحياة الأبقى.

ما يبدو لافتاً في «قلب مفتوح» هو عدم تحديد الزمان والمكان اللحظي للحدث، فالراوي يروي كل الحكايا، الآنية والماضية، في فترة تلت عملية القلب المفتوح، لكن دون أي تحديد لوقتها، ودون أي إضاءة للمكان الذي يكتب فيه تفاصيل تجربته، ودون أي وجود لأي صوت آخر. وحده صوت الراوي ببوحه واعترافاته، انثيال لغوي، وذكريات لا تكاد تنتهي. وكأن شهية الحكي وحدها هي المحرك الرئيسي للكتابة، الحكي ولا شيء آخر. ولقد ظل السؤال يطاردني طوال فترة القراءة: في أي زمن لحظي يخطّ الراوي ذكرياته، وأين تراه كان لحظة الكتابة، وأي علاقة تجمع بين زمان ومكان القص الآني، وبين أزمان وأحداث التذكر؟

إن «قلب مفتوح» مليء بالاعترافات الخاصة التي يُقدم عليها الراوي/ المؤلف بقلب شجاع، وبجراءة كبيرة، بعيداً عن أي حساسية تجاه الدين أو الجنس، وحتى تجاه البوح بأسرار العائلة، التي يمتلك عبده وازن حصة فيها مثلما يمتلك الآخر، الأم والأخوات والجدة، حصة مساوية، مما يضع كاتب السيرة الذاتية في مأزق الاعتراف على حياة الآخر، في مسار اعترافه بتجربة حياته.

إن كتابة حميمة واعترافات في لحظة صدق، تكاد تشبه لحظة تطهر، لذا تأتي هذه اللحظة خلطاً بين التذكر والحلم: «في الليل أحلم كما لو أنني أتذكر، وفي النهار أتذكر كما لو أنني أحلم. لم تبق من تخوم تفصل بين ما أتذكره وما أحلم به. لقد اختلطت الأحلام بالذكريات» ص36، وما دام القلب مفتوحا فالبوح، والبوح وحده هو سيد كل شيء.

إن قراءة متأنية في نص «قلب مفتوح» توضح أنه أقرب ما يكون إلى جنس الرواية، رواية السيرة الذاتية، وربما مرد ذلك هو قدرة الرواية على استيعاب البوح والاعتراف، ولضمهما في سياق حدث روائي رئيسي، حتى لو غابت تفاصيل زمن ومكان القص اللحظيين، فلربما «الكتابة قادرة حقاً على وقف نهر الزمن» ص204.