(1)

Ad

خرجت، هذا الصباح، لأضع كيس الزبالة في البرميل، وما إن فتحت الغطاء حتى رأيت في قعر البرميل رأسا بشريا لطيف التكوين.

لم أفزع، ولم أندهش، لأن مثل هذا الأمر كثير الوقوع في أيامنا، لكنني، والحق يقال، استغربت عندما فتح الرأس فمه وجأر بلهجة المستعطف قائلا: (خذني).

قلت له: كيف استطعت أن تتكلم؟!

خفض جفنيه متضجرا، وزفر محتجا: لماذا لا أتكلم؟ عندما تكلمت من قبل عاقبوني بأن أخذوا جثتي... فإن كنت تود معاقبتي الآن فليس بوسعك إلا أن تأخذني.

قلت: لا يهمني أن تتكلم، لكنني مستغرب أن تتكلم وأنت رأس بلا جثة!

قال: عندك أكثر من قائد فذ.. كلهم جثة بلا رأس، ولكنهم يتكلمون، فلماذا لا تستغرب منهم بدلا من أن تصفق لهم؟

هتفت محتجا: أنا لا أصفق للقادة الأفذاذ.

قال: لكنك لا تستغرب منهم أيضا.

قلت: من الطبيعي ألا أستغرب... فأنا شرقي.

(2)

الرأس البشري الذي فوجئت بوجوده، هذا الصباح، في قاع برميل الزبالة، لم يكن سيئا ولا قذرا، كان في نحو الثلاثين، شعره أسود لامع مصفف بعناية، ومفروق من الجانب الأيسر، وله شارب رفيع يذكرني بالشرف الحكومي، وشفتان غليظتان كإحساس سلطاني. أما عيناه فواسعتان كحيلتان، وخداه ممتلئان مشربان بحمرة العافية.

سألته بتهذيب: اسمح لي بإزاحتك قليلا لكي أضع كيس الزبالة. إنني لا أستطيع أن أضعه فوقك، فمن المحتم أنه سيوسخك، وليس من اللياقة أن أفعل هذا برأس متأنق مثلك.

هتف مستنجدا: خذني.

قلت منتهرا: إنك لم تجاوبني، وسأضطر إلى وضع الكيس فوق شعرك السبط الجميل.

قال: خذني.. أرجوك.. خذني.

نهرته بشدة: كُفّ عن اللجاجة.. إلى أين تريدني أن آخذك؟

قال: إلى أي مزبلة.

قلت: أنت الآن في مزبلة.

قال: أنا، الآن، في برميل زبالة. برميل يُفرّغ كل يوم. أريد مزبلة أصيلة لا يحيق بها التنظيف، وبوسعها أن تتحرك وتصعد وتنزل وتتنزه.

قلت: لا توجد مزبلة بهذه المواصفات.

قال: توجد.. ضعني على جثة أي قائد فذ.

قلت: مزابل القادة الأفذاذ لا توجد إلا في رؤوسهم.

قال: يا غبي.. القائد الفذ لا رأس له.

قلت: يا ذكي.. إذا وضعتك فوق جثته فسيكون له رأس.

قال: يا غبي.. عندما سيكون له رأسي فإنه لن يعود مزبلة.. سيتخلص كلانا من محنته.

قلت: يا ذكي.. كلاكما سيسبب محنة للآخر. فإما أن تتغلب عليك الجثة فتصبح زبالة، وإما أن تتغلب أنت عليها فلا تعود الجثة مزبلة.

قال: هذا ما أريده يا غبي.

قلت: يا ذكي.. أنت غبي جدا. إذا لم يكن رأس الجثة مزبلة فكيف ستكون جثة قائد فذ؟ّ

(3)

قال الرأس المقطوع الذي وجدته في برميل زبالتنا: خذني من هنا.

قلت: عندي عيال كثيرون في هذا البيت، ولا طاقة لي بإضافة رأس آخر.

توسل إلي: لن أكلفك شيئا، فأنا لا آكل ولا أشرب، ولا أشغل حيزا كبيرا. يمكنك أن تضعني في موضع مطفأة السجائر. اعتبرني تحفة سأسلي ضيوفك. عندي كمية هائلة من النكت التي تميت البكاء من الضحك.

وجدتني أسأله بلا وعي: ما آخر نكتة؟

قال فرحا: دولتنا.

ثم طفق يضحك بحرارة حتى خشيت أن يموت من الضحك، لولا أنني تذكرت أنه غير صالح للموت.

قلت له: قديمة، وبنت ستين قديمة. إن نوعية نكتك مزعجة، وستزعج ضيوفي دون ريب.

قال متوسلا: خذني أرجوك.. لابد أن تنتفع بي.

قلت: إذا كنت لا أستطيع الانتفاع برأسي المثبت فوق جثتي، فكيف سيمكنني أن أنتفع برأس مقطوع؟

صاح ببهجة المكتشف: عندما يريدون قطع رأسك قدمني إليهم نيابة عنه.

صحت بامتعاض: أعوذ بالله.. لماذا يقطعون رأسي؟ إنني في حياتي كلها لم أفعل شيئا سيئا.

صاح بابتهاج أعظم: يا غبي.. لهذا سيقطعون رأسك.

* شاعر عراقي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء