أفرغ فنجانك قليلاً!
في رواية "الراهب الذي باع سيارته الفيراري" للكاتب روبن شارما، يعود المحامي الثري "جوليان" إلى دياره بعد أن باع ما يملك من يخوت وعقارات وسيارات وتوجه نحو أعالي التبت بحثاً عن الحكمة وأسلوب حياة يساعده على العيش بهدوء وسكينة، وبعد أن أمضى سنوات بصحبة الحكيم "رامان" الذي علمه الكثير من دروس الحكمة والمعرفة تتلخص في مبادئ سبعة غيرت شخصية "جوليان" بالكامل، ومنحتة السعادة الداخلية والرضا عن النفس الذي كان ينشده ويبحث عنه طوال حياته.عاد "جوليان" وكله رغبة في نقل ما تعلمه خلال هذه السنوات الطويلة للآخرين كي ينتفعوا ويشعروا بما يشعر به من هدوء وسكينة، وكان أول من فكر فيه هو صديقه القديم "جون"، وهو محام مثله ويعاني ما كان يعانيه "جوليان" من التوتر الدائم والضغط العصبي والشعور بالذنب في بعض الأحيان، وبالفعل، أبدي جون استعداده للتعلم ورغبته في الاستفادة من علم وحكمة جوليان، غير أنه لم يبد أي تحسن في البداية، وبدا غير قادر على استيعاب ما يقوله جوليان، ورافض لتغيير أي فكرة من أفكاره السابقة، وأدرك جوليان سبب ذلك، فلجأ إلى حيلة تدل على ذكائه وقدرته على تشخيص مشكلة جون.
فبينما هما جالسان يتحدثان، وقعت عينا جوليان على الإبريق الموضوع على المائدة، فأخذ يسكب الشاي في فنجان جون حتى امتلأ، لكنه لم يتوقف واستمر في سكبه حتى تسرب على جانبي الفنجان، ثم على الصحن، ومنه إلى السجادة العجمية المفضلة لدى جون الذي كان في البداية يتابع بلا اهتمام ما يفعله جوليان، غير أنه لم يستطع أن يمنع نفسه في النهاية من الصراخ وقد نفد صبره: "جوليان... ماذا تصنع؟.. لقد فاض فنجاني، ومهما حاولت أن تضع فيه المزيد... لن تفلح"!نظر جوليان إليه طويلاً ثم قال: "أرجوك... لا تفهمني خطأ يا جون، تعلم أنني أحترمك، لكنك تبدو مثل هذا الفنجان، مليئاً بأفكارك المسبقة الخاصة، فكيف لأفكار جديدة أن تدخل إلى ذهنك وهو ممتلئ؟ عليك أن تفرغ فنجانك بعض الشيء أولاً"! ونحن في هذا الوطن الصغير لا نختلف عن "جون" كثيراً، فرؤوسنا مملتئة بأفكار مسبقة عن الآخرين الذين لا يشبهوننا في شيء، ولدينا صور ذهنية عنهم مضى على وجودها سنون طوال، دون أن نجري عليها أي تغيير، ولو على سبيل المحاولة لا أكثر، لقناعتنا التامة بأنها الحقيقة، والحقيقة لا تقبل الشك أو الجدل أبداً!فصورة الليبرالي التي لا تتبدل في رأس المتدين، عبارة عن إبليس مصغر يدعو إلى الرذيلة والانحلال وانتشار الفاحشة ومحاربة الدين، وصورة المتدين في رأس الليبرالي عبارة عن مخلوق قادم من العصر الحجري ساذج متخلف يدعو إلى الإرهاب ويسعى إلى التسلط، وصورة الشيعي في رأس السُنّي أنه مبتدع يسب الصحابة وولاؤه دائماً وأبداً لإيران، وصورة السُنّي في رأس الشيعي أنه يناصب آل بيت النبي العداء وكل همه القضاء على الشيعة، وصورة الحضري في رأس البدوي أنه طبقي عنصري يستولي على المناصب والرتب بنفوذه دون أدنى استحقاق، وصورة البدوي في رأس الحضري أنه مزدوج دخيل ينازعهم حقوقهم وامتيازاتهم، وهو سبب الفوضى والتخلف في البلد، وصورة الوزير في رأس النائب أنه لص فاسد كل هدفه هبش ما يستطيع هبشه قبل تركه الوزارة، وصورة النائب في رأس الوزير أنه متمصلح وصولي يبحث عن دغدغة عواطف الناخبين من أجل مصالحه الخاصة... إلخ.هذه الصور التعميمية الشمولية التي لا يسندها دليل ولا يقبلها منطق، لاتزال تسكن رؤوسنا من يوم وعينا على الدنيا وإلى أن نموت على ما يبدو، سبب وجودها وبقائها أننا لا نريد أن نسمع الآخر بهدوء وتعقل وتفكر وتمعن، فقد قررنا منذ زمن بعيد أن الجميع من هذه الفئة أو تلك، نسخ متطابقة تتشابه في كل شيء، ولأننا رأينا مرة ليبرالياً متفسخاً منحلاً فمعنى ذلك أن كل الليبراليين على نفس الشاكلة، ولأن هناك متديناً متزمتاً متخلفاً، فكل المتدينين كذلك، ولأننا عرفنا بدوياً مزدوج الجنسية فكل البدو مزدوجون، ولأننا سمعنا حضرياً يتكلم بعنصرية فكل الحضر عنصريون، ولأن وزيراً اختلس فكل الوزراء مختلسون، ولأن نائباً فاسداً فكلهم فاسدون، وهكذا، تدور دائرة الشك بين الجميع، وعلى الجميع، وكل الذين يختلفون عنا مذنبون مع سبق الإصرار والترصد، ولا أحد منهم بريء!ولن تتغير أو تتبدل أفكارنا السوداوية هذه عن الآخر أبداً، وسنظل نطعن في أخلاق وأصول وذمم بعضنا بعضا، ما لم نعمل قليلاً بنصيحة جوليان، ونفرغ قليلاً من فناجيننا الممتلئة بالشك والريبة... ليحل محلها بعض من حسن النية وقليل من حسن الظن!