جدة من أقدم الأماكن التي استوطنها الإنسان على وجه الأرض، بل إنها استمدت اسمها من جدة البشرية حواء التي تقول بعض الروايات إنها دفنت في هذه المدينة الساحلية الساحرة، ففي منطقة وسط البلد قبر «أُمّنا حوا» التي ترقد حزينة بعد أن أفجعها ظلم أبنائها البشر حين قتل واحدهم الآخر بعد أن تملكته رغبة جامحة في «الاستحواذ»!
ليس ثمة مدينة تداعب الروح مثل جدة، هذا ليس حديثاً شعرياً، فكل مَن يمر بهذه المدينة المرحة لا يمكن أن ينسى لحظاته الخاصة فيها، ولكن جدة غرقت منذ عقود في بحر الفساد الإداري، ولأن «جدة غير»، فإن فسادها أيضا غير!فإذا كان الفساد في كل مكان يتمثل في نهب جزء من ميزانية المشروع أو نصفها على أبعد تقدير، فإن فلسفة الفساد في جدة تقوم على نهب الجمل بما حمل، ثم بيع الجمل وشراء طائرة خاصة، وبعد ذلك يأتي مشروع جديد لإنقاذ ما تسبب فيه المشروع المنهوب، وهكذا حتى لم يبق جمل في المدينة.ليس صحيحا أن جدة غرقت بسبب الأحياء العشوائية التي تحاصرها منذ سنوات، هذا جزء بسيط من الحقيقة، لأن بعض الأحياء التي غرقت ليست أحياءً عشوائية، بل تم بناء منازلها بقروض من صندوق التنمية العقارية، وحتى لو سلمنا بفرضية أن الأحياء العشوائية هي السبب في كارثة الأربعاء الماضي، فإن وجود هذه الأحياء كان بسبب «مافيا العقار» في جدة التي استحوذت- بشكل أو بآخر- على الأراضي الصالحة للسكن في شمال المدينة حتى أصبح الحصول على مسكن خارج الأحياء العشوائية أمراً بعيد المنال بالنسبة لمحدودي الدخل.الحقيقة المرة التي اعترف بها أمين مدينة جدة أن أكثر من 70% من أحياء المدينة دون شبكة صرف صحي، قد يصعب تصديق حدوث هذا الأمر في واحدة من أهم مدن الشرق الأوسط والعاصمة الاقتصادية والسياحية لدولة ضمن قائمة مجموعة العشرين، ولكن هذه هي الحقيقة، حيث تعرضت المليارات التي خصصتها الدولة لمشاريع البنية التحتية في جدة إلى عمليات نهب عشوائية ومتكررة، وعلى الرغم من المحاولات المتواصلة لإنقاذ المدينة عبر اعتماد ميزانيات ضخمة لتغيير الحالة المزرية التي تعيشها جدة، فإن الفساد كان سيد الموقف دائماً، حيث تتبخر الميزانيات وتبقى الحال على ما هي عليه، حتى طفحت المدينة وغرقت الشوارع وطفت جثث الأبرياء على المياه الآسنة.قبل سنوات أحالت هيئة الرقابة والتحقيق عدداً من المسؤولين والمهندسين في الصرف الصحي إلى المحاكمة بتهمة تبديد ميزانيات مشاريع المياه والصرف الصحي في جدة، وصدرت أحكام بالسجن لخمس سنوات ضدهم، ولكن الحكم لم ينفذ لسبب أو لآخر، واليوم تعيش جدة لحظة مفصلية، فإذا لم تتم محاسبة رموز الفساد الذين تسببوا في «كارثة الأربعاء»، فإنها ستعيش مهرجاناً سنوياً للغرق والموت وخراب البيوت!* كاتب سعودي
مقالات
طوفان الفساد في جدة
02-12-2009