القضاء الشامخ!
إقحام السلطة القضائية في أتون التجاذبات السياسية أمر مرفوض وفق أبسط الموازين الدستورية ومبادئ الفصل بين السلطات, والتطاول على القضاء أو المساس بالشخصيات القائمة على إدارة هذا المرفق القانوني بالتأكيد خط أحمر لأن من شأن ذلك اهتزاز هيبة العدالة, ولعل المفاسد المترتبة على ذلك تكون أكبر فداحة حتى في ظل وجود أخطاء أو اجتهادات بعيدة عن الواقع بحسب توقعات ورغبات أطراف النزاع, فالقضايا المرفوعة أمام القضاء في أغلبها الأعم تحسم لمصلحة طرف على حساب طرف من الخصوم, ولهذا فإن الأحكام القضائية دائماً ترفض من قبل المتشاكين ومن حقوقهم المكتسبة التدرج أمام درجات التقاضي لثلاث مرات، عدا الإشكالات وطلبات إعادة النظر من البداية وغيرها من التفاصيل والإجراءات التي يختص بها المحامون والمستشارون أنفسهم.ومن الطبيعي جداً أن تتبدل الأحكام كلية، فالرابح يتحول إلى خاسر والعكس صحيح، وفي النهاية يقبل الجميع القرارات النهائية وإن لم يكن عن طيب خاطر، وإنما رغماً عنهم ضماناً لهيبة العدالة, والشواهد على ذلك تحدث يومياً وعلى مر السنين وفي مختلف أنواع المشاكل والأحداث.
ولهذا فإن الخوض في قضايا المحاكم بشرط عدم التشكيك والطعن في نزاهة القضاء أو تجريح هذه السلطة من الأمور المباحة، بل الدارجة على امتداد التاريخ والثقافات البشرية, ولعل من يتابع فقط الإجراءات والنقاشات السياسية المصاحبة لتعيين قضاة المحكمة العليا في الولايات المتحدة، والصراع الذي يحتدم بين الرئيس والكونغرس ولا يحسم إلاّ بالتصويت ورجاحة الثقل السياسي دليل على أن البعد السياسي لا يمكن المفر منه, ولكن يوضع له حد نهائي بمجرد صدور قرار تعيين القاضي في تلك المحكمة. كما أن أدبيات الأبحاث القانونية والدراسات القضائية غنية بالجدل حول الأحكام القضائية ونقدها، وإبراز عيوبها حتى من النواحي الفنية والمهنية والإدارية, لدرجة أن أبسط مصطلحات رفض الأحكام القضائية يسمى "الطعن"!ومن هذه المفارقات تبين أن خطوط التماس بين النقد الموضوعي والتشكيك في القضاء رفيعة جداً لدرجة التداخل أحياناً، وهذا ما تنتج عنه الحساسية المفرطة في النقاشات العامة عند تداول هذا الموضوع, كما أن تداول النقاش في الأحكام القضائية لا تتم إلا في الحالات التي تكون فيها الأبعاد السياسية حاضرة بقوة, والكويت ليست حالة مستثناة من هذه القاعدة سواء على صعيد دول العالم الثالث أو حتى الدول المتقدمة.وما يجري اليوم من بروز النقاش العالي والعلني لقضايا الرأي السياسي، والأحكام الصادرة بحقها سواء في موضوع محمد عبدالقادر الجاسم أو خالد الفضالة أو غيرها القادمة على الأثر أمر طبيعي جداً، لأن صداها في النهاية صدى سياسي ونقد الأحكام الصادرة بالحبس فيها لا تعد طعناً في شخوص السادة المستشارين لأن القوانين التي استندوا إليها خصوصا في قانون الجزاء تنص على عقوبة الحبس, ونقد هذه الأحكام ووصفها بالقاسية إعلاميا لا يختلف عما يتضمنه موضوع الطعن فيها أمام درجات الاستئناف والتمييز، وليت صحائف هذه الطعون ومرافعات الأساتذة المحامين يتم نشرها حتى يتبين لعامة الناس تلك الكلمات الكبيرة التي تسطر فيها، فهل معاني تلك العبارات تحمل التشكيك في ذمة السادة القضاة أو المساس بكراماتهم؟ وهل يعتبر ذلك انتقاصا لمكانة السلطة القضائية وشموخها وهيبتها؟ولهذا فإن الزج بالقضاء في أتون السياسة من قبل أي من أطراف النزاع يعد أمراً مرفوضاً ليس لأن من شأن ذلك زعزعة مرتبة هذه السلطة أو بقائها ملاذاً للعدالة، إنما لكون ذلك لا يتعدى مجرد أدوات إعلامية لأهداف سياسية بالسلب أو الإيجاب.