الوضع العام الفاسد ينتج عنه مباشرة فكر فاسد وثقافة رديئة فاسدة وسطحية، وسلوك بشري غير سوي، إذ إنه بمجرد أن ينتشر الفساد في كل مكان يطغى على ما عداه، فيصبح كل شيء تقريبا فاسدا من الثقافة إلى الفكر، مرورا بالسلوك البشري. لذلك تسعى المجتمعات البشرية الحية إلى حماية نفسها من سيطرة الفساد وانتشاره، وتحكمه بمجرى الحياة اليومية عن طريق إقامة دولة المؤسسات الديمقراطية التي تتصدى للفساد بأشكاله كافة عن طريق سيادة القانون وتطبيقه على الجميع من دون تمييز.

Ad

 ومن المعروف أن الحياة في الدول الديمقراطية التي تلعب فيها المؤسسات الدستورية دورا حيويا هي حياة ديناميكية متجددة لا تعرف الثبات والجمود، فهناك باستمرار تقييم شامل وإعادة هيكلة دائمة لدور المؤسسات الديمقراطية القائمة حتى لا تصبح مجرد شكل خالٍ من المحتوى، كما أن هناك أيضا وبشكل مستمر مراجعة شاملة للتشريعات والقوانين التي تنظم حياة البشر وتصرفاتهم، إذ إنها، من المفترض، أن تتغير باستمرار مع تطور المجتمع وتقدمه.

أما لدينا، وعلى العكس تماما مما هو موجود في المجتمعات البشرية الحية، فإن الجمود والثبات يسيطران على مجمل حياتنا العامة، إذ إننا لانزال نعمل بالآليات والأساليب ذاتها التي عرفناها منذ عقود على الرغم من أنه قد ثبت لنا المرة تلو الأخرى عدم فعاليتها ورداءة مخرجاتها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنه وبالرغم من الحديث المكرور والممل حول انتشار الفساد في مناحي الحياة كافة من تجارة الإقامات إلى فساد البلدية مرورا بالشهادات المضروبة، والفساد الموجود في القطاع النفطي، والأشغال، والبيئة، والصحة، والمرور، والإسكان، والجمعيات التعاونية، وفي مجلس الأمة، وفي الأجهزة الحكومية الأخرى.

 وبالرغم أيضا من إقرار "خطة" الـ37 مليار دينار من جهة، وقانون الخصخصة من الجهة الأخرى، فإن وسائل وآليات التصدي للفساد المالي والإداري والأخلاقي والسياسي لم تزل وسائل بدائية، وآليات متخلفة رغم التصريحات الرسمية الكثيرة عن نية السلطتين محاربة الفساد الذي يزداد انتشارا عاما بعد آخر في القطاعين العام والخاص، كما تبينه التقارير الدورية الصادرة عن هاتين السلطتين.

لذلك فقد كان المؤمل أن يتم في الأسبوع الفائت إقرار قوانين مكافحة الفساد، لكن، ومع كل أسف، فقد فشلت السلطتان منذ ديسمبر الماضي وللمرة الثالثة على التوالي في إقرار هذه القوانين رغم أنهما قد سبق أن أعلنتا أن قوانين مكافحة الفساد ستكون من ضمن أولوياتهما في دور الانعقاد الحالي، فضلا عن أن الحكومة تعتبر مخالفة، إن لم تقر هذه القوانين، لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي وقعت عليها عام 2003.

 لهذا وحتى نصدق التصريحات الرسمية الكثيرة المستهلكة التي يطلقها أعضاء السلطتين حول جديتهما في مكافحة الفساد، فإن المطلوب، كحد أدنى، هو الدعوة وبشكل سريع إلى جلسة خاصة يتم فيها إقرار قوانين مكافحة الفساد، وإلا "لا طبنا ولا غدا الشر".