بعد مدة قصيرة من تعرّفنا إليه نسينا تماماً أن اسمه بشير، فقد كنّا نسميه دائماً «الزيّطة» كناية عن طائر صغير جداً يخفق بجناحيه بسرعة مذهلة مثل النحلة، وينطلق نحو هدفه كالرصاصة، مصدراً خلال انطلاقه صوتاً صاعقاً ومضحكاً يشبه العفطة.
استحقّ صاحبنا اسم الزيطة عن جدارة، فقد كان بالغ القصر، شديد النحافة، وكان صوته رفيعاً وحادّاً كأنه صادر عن «دبابة». فوق ذلك كان لا يستقر أبداً، فهو مهرول دائماً لقصد أو لغير قصد. وحتى إذا جلس، كان لفرط تقلقله يوحي في كل لحظة بأنه يهم بالقيام. وطالما قالت أمّه إنه هكذا حتى أثناء نومه، إذ يتعارك في أحلامه، ويتقلّب، ويتكلّم بوضوح، ويتضمن كلامه كثيراً شتائم فاحشة، لكنّه كان يعتصم من العقاب بقانون النوم الذي يعتبر النائم ميتاً.كان من مآثر الزّيطة مهارته في التقلب بجسمه في الهواء، إذ يلامس الأرض بيديه بكل خفّة ويتقلّب كالمروحة، عشرات المرّات، على طول الشارع جيئة، وذهاباً، وكنّا نعجب بمهاراته، ونحسده عليها لأننا لم نفلح قط في اكتساب حتى رائحتها، وكان هو يعرف لنفسه هذا الامتياز، فيبالغ في أداء هذه الحركات، خصوصاً عندما تكون بنات الجيران واقفات عند الأبواب، إذ يُلغي، بنظرات إعجابهن وبنظرات بؤسنا معاً، الهوّة السحيقة بين ضخامتنا وضآلته.أمّا حين تعلّم قيادة الدراجة الهوائية، فبدا أنّه في سبيله الى إلغائنا كليّا، لولا أنّ ضيق ذات يده أوثق قوائم غروره، وأدركنا بالرحمة، حيث لم يكن مصروفه كافياً لاستئجار الدراجة لأكثر من ربع ساعة يومياً.كنّا نستأجر الدراجات من «زامل» صاحب دكان تصليح الدراجات، وكنّا ندفع عشرة فلوس مقابل كل ربع ساعة، والويل لمن يتأخر دقيقة، فقد كان زامل يحتفظ بساعة جيب ضخمة، يباهي كثيراً بأنّ إذاعة لندن تضبط وقتها على حركة عقاربها. وهو يرفعها عادة في وجه من يتأخر، ويرفع يده الأخرى لاستيفاء ثمن الدقائق الزائدة بصفعة ترنّ وتصبغ.تعلّم الزّيطة قيادة الدراجة في ربع الساعة الأول. وفي الأرباع التالية صار يسحق قلوبنا حسداً، بأدائه، وهو يقودها، حركات بهلوانية لا تخطر حتى في بال إبليس.كان ينطلق بالدراجة من أوّل الشارع بسرعة هائلة، ثم ينهض من على المقعد، قاذفاً نفسه بكل ثقله فوق عجلة القيادة، ويظل جالساً هناك والدراجة منطلقة فيما يداه من ورائه تمسكان بمقبضي المقودَ، ثم أنّه، بخفّة قرد، يدفع نفسه الى الوراء ليستقر فوق المقعد مجدداً، ولا يلبث حتى يعيد الحركة مجدداً.بلغ الهول ذروته حين جاء عمّه من الأرياف لزيارتهم، فأعطاه 50 فلساً.زعق وهو يجري نحو دكّان زامل: اليوم... سأريكم ما لم تروه في حياتكم.واصطفت البنات عند الأبواب، واصطففنا نحن أيضاً، محاولين مداراة عجزنا وخيبتنا بالسخرية والتهكم.جاء من أقصى الشارع يدفع الدراجة، أسندها الى الحائط، ورفع أذيال دشداشته وربطها حول بطنه، وتطلّع الى البنات ضاحكاً، فيما هو يسحب الدراجة ويمتطيها.تضّرجت خدود البنات، وافترت شفاههن عن ابتسامات عذبة، وسطعت عيونهن بالألق، وكان ذلك كافياً لإضراء جنونه، إذ داس بقوّة على «البدّال»، وانطلق ذابحاً الهواء بسكّين سرعته.أسعدتنا الحركة الأولى لأنها لم تكن جديدة، مّا أتاح لنا الفرصة للتصفير والسخرية: هذا رأيناه في حياتنا.صاح وهو يستدير لبدء شوط الذهاب مجدداً: لم تروا شيئاً بعد.وانطلق كالريّح، ثم قفز رافعاً رجليه الى الأعلى. أطلقت البنات صيحات ذعر. وسرّه ذلك على ما يبدو، إذ تصنّع أنه يسقط. فتعالى صراخهن المشفق، لكنه بدلاً من أن يهوي، تمدّد بكامل جسده على طول الدراجة، واضعاً بطنه فوق المقعد، بينما يداه ممسكتان بالمقود.تعالت من أفواه البنات صيحات الانبهار والإعجاب، وكان ينظر إليهن مبتسماً بسعادة، ويرمي نحونا ما زاد من نظرات، لتأكيد تشفّيه وتفوّقه.في الشوط الثالث قام بحركة لا تصدق، جعل الدراجة تتوازن باستمرارية سرعتها، ونهض ملقياً قدميه الى الوراء، وما لبث أن ترك المقود، واستقر واقفاً منتصباً تماماً فوق المقعد، والدراجة تجري.زاد صراخ البنات ضراوة، وعلى غفلة انفكّ رباط دشداشته، فعبّ بها اللهواء حتّى صارت كالمظلة، وارتفع بها الهواء أكثر حتى عرّت جسده وغطّت رأسه.كان لباسه الداخلي يهفهف، والدراجة تقود نفسها بنفسها، وكان يحرّك يديه جاهداً لإزاحة الدشداشة عن وجهه.ركضنا من ورائه هلعين، لكن لم يكن لذلك أي جدوى، إذ هوت به الدراجة بقوّة، قبل أن ندركها.استغرقنا وقتاً لانعاشه بالماء... وبالصفع، وعندما انتبه ورأى حلقة الوجوه من حوله، خصوصاً وجوه البنات المكفهرة الفزعة، بدت حمرة الحياء على وجهه تطرد شيئاً فشيئاً صفرة الفزع. وهبّ واقفاً بإباء، كأنّ الأمر حدث لشخص آخر، لكنّه سقط فوراً، فاضطررنا الى إسناده ومرافقته الى البيت وهو يعرج.وحملنا الدراجة إلى زامل، وأقنعناه بأن يعيد ساعته الى جيبه، وأن يوفّر الصفعة لزبون آخر، فقد نال الزّيطة عقوبته أضعافاً، إذ لم نقصّر في صفعه بوفرة وشدّة من أجل إنعاشه!تأمّل زامل العجلتين الدائرتين بأسلاك مكسّرة أو ملتوية وزفر مغتاظاً: لن أؤجّره دراجة بعد اليوم. إذا شاء أن يصير بهلواناً فليذهب الى السيرك الهندي.كانت قلوبنا تزغرد بسعادة لهذا القرار العادل، وتمنيّنا من أعماقنا ألاّ يتراجع زامل عن قراره مهما كانت الأسباب.
مقالات
حديقة الإنسان البهلوان
11-12-2009