أيقونة لا تشيخ
يركض الزمن، وتتبدل الفصول، وتذبل أوراق الربيع وأزهاره، وتظل هي شجرة سنديان دائمة الخضرة.
يهرم الصغار وتتعاقب الأجيال، وتظل هي أيقونة لا تشيخ. وبصبر تظل تغني للأيام... تغني... وتغني وهي تغزل صوف الزمن، ثم تنقض غزلها كل ليلة وتعيده، كما تفعل (بينلوب) انتظاراً لمحبيها الذين يتناسلون كالأوراق الخضر ويتكئون على شرفاتها الشاهقة... وتظل تغني... بينما يمتد بها الوقت مستأنياً، مستأنساً برحيق الصوت واتساع المدى: شو بيبقى من الروايح؟... شو بيبقى من الشجر؟ شو بيبقى من الشوارع؟... شو بيبقى من السهر؟ شو بيبقى من الليل... من الحب... من الحكي؟... من الضحك؟... من البكي؟ شو بيبقى يا حبيبي شو بيبقى؟ بيبقى قصص زغيري عم بتشردها الريح... ولكن الريح التي شردت القصص والحكايات في أغنيتها العذبة، عادت لتلمّ اللغط والجدل الذي دار حول (نهاد حداد)، وتحكي كيف تعارك الفرقاء حول ليرة تدخل في جيب هذا ودولار يدخل في حساب تلك. نبشوا في سيرة المسكينة التي كانت تتقاضى أجرتها المقطوعة كأي عامل في فرقة الرحابنة، ثم تذهب إلى فراشها لتنام غير عابئة بمتابعة دفاتر الحسابات وعدد الليرات. وبقيت (نهاد) حيية متقشفة تسير في ظل الحائط، في الوقت الذي كانت فيه (فيروز) تضرب بجناحيها لتعتلي الأفق وتتدلى أيقونة ناصعة البريق. لا أدري كيف فات أولئك المصطرعين على حساب الغلة التفريق بين (نهاد) و(فيروز)؟! بين المرأة التي تفيق في الصباح لتفرّش أسنانها وتسقي أصيص الزرع وتفرم بقدونس التبولة، وبين الفنانة الطالعة من البياض كزنبقة نادرة؟! بين (نهاد حداد) التي تقف على أعتاب الخامسة والسبعين كما تقول شهادة ميلادها، وبين (الفيروزة) الفريدة الزرقة التي لا يحدها عمر ولا يبليها دهر! لم أستغرب التنادي للدفاع عن فيروز دون النظر في حيثيات صراع الأرباح والخسائر، لأن من دافعوا عن (فيروز) إنما يدافعون عن الرمز الكامن فيها، وعن ميراث من الأصالة والإبداع، تكرّس كميراث وطني وفني لا يذبل ولا يفنى. وأمام هذه الصورة الكبرى تنتفي (الشخصنة) والخصوصية في فيروز، ويستنكف الذوق السليم ذلك الخوض العلني في أمور عائلية يمكن أن تُسوّى وراء الكواليس، وبما يحفظ كرامة (فيروز) و(الرحابنة) من سفاسف لا طائل من ورائها. ورغم الغثاء تظل تغني: يا ورق الأصفر عم نكبر عم نكبر الطرقات... البيوت عم تكبر عم تكبر تخلص الدني وما في غيرك يا وطني بضلك طفل صغيّر ويظل الزمن -ودائماً الزمن- في كفّ فيروز وتحت إمرتها، تمدّه وتغزله، وتنشر على حباله حذافير حيواتنا جميعاً، زمن يتفتق بالشعر، والغموض، ودوران الفصول، والحنين، والحزن البهيّ، والانتظارات، وثلج الغياب، والمواعيد المعلقة... كيف تجتمع هذه الباقة من نثار الصور الهاربة لتثير فينا تلك القشعريرة، فنجفل ونتناثر مثلها، ومثل (الثلج) و(ورق أيلول) و(الغيم العتيق) و(صوت الريح) و(أيام الشتا)، وتلهو بنا أرجوحة الزمن، وصدى صوتها المتناوح يترقرق كالماء في أودية الغياب: وينن؟... وينن؟... وينن؟... وينن؟ وين صواتن؟... وين وجوهُن؟... وينن؟!! صار في وادي بيني وبينن!! ركبوا عربات الوقت وهربوا للنسيان... وتركوا ضحكاتن منسية على الحيطان تركوا لي المفاتيح... تركوا صوت الريح وراحوا ما تركوا عنوان! ومع الغياب تحضر الوحدة ووحشة الطرقات، ويكون للزمن إيقاع آخر مشحون بالتوقع، ومنداح في فضاءات غرائبية تختلط فيها الخيبة بكسرات الذكرى، وفتات الوهم ببقايا أمنيات واهنة: وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان/ وحدهن بيقطفوا وراق الزمان/ بيذكروا الغابة/ وبيضلهن مثل الشتا يدقوا على بوابي. يا زمان يا عشب داشر فوق هالحيطان/ ضويت ورد الليل ع كتابي/ برج الحمام مسوّر وعالي/ هجّ الحمام وبقيت لحالي. يا ناطرين الثلج/ ما عاد بدكن ترجعوا؟/ صرّخ عليهُن في الشتا يا ديب/ بلكي بيسمعوا يا زمان من عمر فيّ العشب ع الحيطان/ من قبل ما صار الشجر عالي ضوي قناديلهُن وانطر صحابي/ مرقوا وفلوا وبقيت لحالي!