عقدة التجريب الروائي
تلتقي حقبة تاريخية ماضية بحاضرها الراهن، تماماً كالتقاء الواقع بالخيال، حيث يظل الأديب ماضياً في تجريبه، باحثاً عن التجديد على مستوى التركيب اللغوي، أو أسلوب السرد، في ما يتعلق بالعمل الروائي، أما بالنسبة إلى الشعر فيظل أمر التجديد والتجريب أخف وطأة، وأكثر سلاسة، إذ لم يعد هناك عائق كبير بعد أن تهدم ركنا الوزن والقافية.
كيف يلتقي الماضي بالحاضر، وأين هي نقطة الالتقاء والافتراق بين شخصية تاريخية حقيقية وأخرى خيالية تسرح في فضاء المكان، وتتمشى في أزقة بغداد، منادمة الخليفة العباسي، قبل أن تنتقل إلى روسيا وبلاد البلقان؟ثمة خيط فاصل كنت أبحث عنه حين وقعت في يدي لأول مرة رواية «شجرة المسرات... سيرة ابن فضلان السرية» للروائي والشاعر الفلسطيني محمد الأسعد. كان لابد من أن أستعيد ذاكرتي، وأعود إلى مصادري التاريخية كي أتيقن من شخصية أحمد بن فضلان، الذي يوصف بأنه صاحب أهم مخطوط يتعلق بروسيا وبلاد البلقان كتب في القرن العاشر الميلادي. كان ابن فضلان ضمن ندماء الخليفة العباسي المقتدر بالله الذي ابتعثه إلى روسيا وبلاد البلقان سنة 922م، والمخطوط نقلة نوعية في أدب الرحلات، على الرغم من كل ما شابه من مغالطات وأخطاء في التحقيق، وقع فيها بعض المحققين.لم يعبّر الأسعد عما يريد قوله بأسلوب مباشر، مما يتيح فرصة لتوظيف أجواء التصوف التي رافقت رحلة ابن فضلان، وكذلك شخصياته التاريخية الجدلية كشخصية ابن عربي، والخليفة المقتدر بالله، وابن فضلان ذاته الذي يظهر في كل جزء من الرواية بثوب مختلف، ويقول كل ما يريد المؤلف قوله، من دون خوف أو مواربة. إن المفارقة التاريخية تبدو عميقة ومذهلة حين يتعلق الأمر بشخصيات من القرن العاشر الميلادي تعيش بيننا، وتقول الكلام الذي نخشى نحن قوله. ورغم كل الدعوات التي تتعلق بالتجديد على صعيد الرواية، والتحرر من عتق الحدوتة المباشرة إلى آفاق أرحب يلتقي فيها الشعر بالسرد بالواقعة التاريخية، والإسقاط الزماني والمكاني، على الرغم من كل ذلك فإن الرواية العربية على مستوى التلقي تبدو ماضية بسير بطيء جداً. بل إن الداعين إلى التجديد والتجريب هم أول الفارين منها حين يتعلق الأمر بعمل تاريخي، إبداعي جاد كرواية «شجرة المسرات». فبعد مضي ما يربو على ستة أعوام على صدور العمل لم يجد الاهتمام النقدي والأكاديمي الذي يستحق.يتعلق بالشق الإبداعي في الرواية جانب آخر تسويقي وتجاري، ولا يمكننا أن ننكره ونحن ندفع بالمخطوط الذي بين أيدينا إلى دار نشر تضع في الحسبان أولا عوائد المبيع والنسخ المسترجعة بدلاً من الحديث عن تقنيات إبداعية عالية وتجريب روائي منطلق الآفاق. وهي جدلية تاريخية لن نتخلص منها ما لم يتخلص القارئ العربي من ذهنية الحدوتة المباشرة «بطل روائي، وشخصيات مساندة، ومكان، وخيط متناغم يشد القارئ إلى النهاية». وحبذا لو انتهت الرواية بزواج البطل من محبوبته التي هام وراءها وبادلها رسائل الغرام!ماذا بوسعنا إذا ما أردنا استبدال الذائقة العربية نحو تلقي التجديد، وقراءة الأعمال الروائية التجريبية؟ هل نبدأ بالقارئ العادي أولاً، أم نقصد رواق الأكاديميين والأدباء وطلبة الجامعات؟ليست الإجابة سهلة إذ تعاني الرواية خللاً آخر يتعلق بالوعي الجمعي العربي، وتلك القيود الاجتماعية واللغوية التي تكبل الكتّاب. ولم يعد بوسعنا التصديق أن العمل الروائي العربي خارج من رحم المدينة ويتميز بالصدق الإبداعي والانطلاق الفني في تجسيد الشخوص وسرد الأحداث والمشاهدات المكانية من دون خشية من الرقيب، أو رهبة في الحديث عن المرأة، ونزواتها العابرة. وهي عُقد تجاوزتها الرواية الأوروبية منذ زمن سحيق.