حضورنا لمسرحية «تاتانيا» أيقظت فينا الحنين إلى الماضي، لأيام كان فيها المسرح في الكويت في عز مجده وعطائه وتوهجه، بممثليه ومؤلفيه ومخرجيه، والأهم من كل ذلك بالحريات، مسرح الدسمة هو ذاته، لم يطرأ عليه أي تجديد، نفس الكراسي، نفس خشبة المسرح، نفس الجدران، لكن الروح مختلفة، لم تعد الناس كما كانت مبتهجة فرحة، لتعيد لنا مسرحية «تاتانيا» حماسنا المفقود، وتنفخ فينا الروح من جديد، ولا عجب أن تنال تلك المسرحية (التي ألفها المبدع بدر محارب وأخرجها المحترف عبد العزيز صفر) على ثماني جوائز من خلال مشاركتها في مهرجان الخرافي للإبداع المسرحي، من ضمنها التأليف والإخراج والتمثيل والديكور والإضاءة والموسيقى.
تدور أحداث المسرحية حول قرية مغلقة في فرنسا تدعى «تاتانيا» تحكم بالقمع والاستبداد والتسلط الذي يمارسه القس بتشجيع من العمدة كي يحكم سيطرته على أهلها الأميين، فأوامر القس ونواهيه تطاع طاعة عمياء بخنوع واستسلام، لاعتقادهم بأنه يتكلم باسم الرب وبإيعاز منه، وتبدأ القصة بوصول المعلم الذي جاء ليخرج أهل القرية من ظلمات الجهل والتعصب الديني، لكنه يواجه تحديا صعبا في إقناعهم بمواجهة استعباد القس والوقوف ضد الظلم والقهر والعبودية، ليغضب عليه القس ويسجنه بتهمة الكفر والإفساد والتخريب، وليكتشف المعلم أنه كان أمام مؤامرة، الأمر الذي أضاف للعمل فن الإثارة والترقب بحرفية فائقة.يكمن جمال المسرحية برمزيتها التي تجسد الصراع الأزلي، وهو صراع كل زمان ومكان، بين الاستبداديين التقليديين والمجددين التنويريين، صراع من أجل الحرية، وضد الصنمية، فيستذكر المعلم وهو مسجون في قبوه حيث لا ضوء ولا هواء، كلمات فولتير (فيلسوف التنوير): «اسحقوا الخرافات والتعصب الديني»، ويتساءل المعلم: «كلمات من نور قالها فولتير قبل قرون، فهل نحن بحاجة لها اليوم؟»فقصة فولتير الذي حورب وسجن ونبذ ونفي وصودرت كتبه وحرقت، هي اليوم قصتنا وقصة مفكرينا ومثقفينا، الفرق هو أن أوروبا استوعبت فلسفته وطبقتها ولو بعد حين، فقد مجدت فلسفته بعد اضطهاده وأرستها بعد مماته لتدخل بها التاريخ وتلج من خلالها عصر التنوير، أما نحن ففولتيرنا مازال مقموعا بذات القبو «الكئيب الحزين، الذي تشهق جدرانه الباردة أنفاسه» على حد وصف المعلم في المسرحية.انتقد فولتير بلده وانتقد تزمت وعنف الكنيسة التي تدخلت بشؤون الناس وإرادتهم واختياراتهم وحرياتهم. فمعركة فولتير كانت، كما وصفها، في «محاربة الوحش الضاري» أي التعصب والإكراه في الدين، الذي كان سببا في المجازر والمعارك الطاحنة بين مختلف المذاهب، لم تكن معركة فولتير وحده، بل كانت معركة سقراط وابن رشد وأركون والمعلم في مسرحية تاتانيا وأي مفكر أو إنسان حر.وبالرغم من إيمان فولتير، فقد اتهموه بالكفر والزندقة والإلحاد، ففي دعائه إلى الله كان يردد: «إلهي، ألتجئ إليك يا خالق كل شيء، ألا تجعل الكره والبغضاء بين البشر يستشري، بسبب الفروق التافهة بين ملابسنا أو قوانيننا، أو لغاتنا المختلفة أو عاداتنا المضحكة أو آرائنا الغبية أو مراكزنا الاجتماعية. هذه فروق تبدو عظيمة لنا بسبب جهلنا، ولكنها متساوية وليست فروقا على الإطلاق بالنسبه لك. فاجعلهم يتذكرون دائما أنهم مازالوا إخوة وأخوات»، ولكن رفضت الكنيسة مراسم دفنه، وحين قامت الثورة الفرنسية، نقل جثمانه إلى جوار عظماء فرنسا حيث أقاموا له مراسم دفن تليق بمقامه حضرها 600 ألف فرنسي، وكتب على قبره «هنا يرقد فولتير الذي حارب المتعصبين والمتزمتين، ودعا إلى روح التسامح الدينى، وطالب بحقوق الإنسان ضد العبودية، وحارب نظام الإقطاع. شاعر، ومؤرخ، وفيلسوف، جعل آفاق النفس البشرية تتسع، وتتعلم معنى الحرية».خاطر فولتير بحياته وطمأنينته (كما يفعل مفكرونا اليوم)، من أجل فلسفة تُختصر بمقولته المشهورة: «فلنزرع حديقتنا».. لتمهد كتاباته (وغيره من الفلاسفة) للثورة الفرنسية، ولتستفيق أوروبا من ظلامها، ويدخل بعد ذلك عصر التنوير التاريخ من أوسع أبوابه، لأنهم فهموا رسالة التحضُّر والعقلانية والتقدم، واستوعبوا أن «تاريخا بلا فلسفة وفن لا يبقى منه شيء. وأن التاريخ لن يقف على قدميه ما لم نبعد عنه اللاهوت». على حد تعبير فولتير... وهي نفس الصرخة التي أطلقتها مسرحية تاتانيا: أن نبدأ «بزرع حديقتنا».
مقالات
تاتانيا : دعوة لمحاربة الوحش الضاري
10-08-2009