بفارق أقل من أربع وعشرين ساعة، شهدنا تفاصيل «مقاومتين» لا يجمع بينهما إلا طابع الرفض والاعتراض على واقع يتصف باللاعدالة.
في الأولى، في مبادرة غير مسبوقة من حيث دقة التنظيم، تداعت مجموعة من الشبان إلى القيام بحملة استمرت عدة أيام لمقاطعة استخدام الموبايل خلال يوم واحد في تاريخ محدد. استخدم المنظمون جميع الوسائل الإنترنتية المتاحة، من البريد الإلكتروني إلى العريضة الإلكترونية إلى الفيس بوك، المحجوب في سورية، للترويج لفكرتهم والتشجيع على مساندتها. وإن كان من المستحيل معرفة مدى التجاوب الفعلي مع هذه الحملة، فعلى الأقل، قد لاقت صدى كبيرا لدى مجتمع الإنترنت المحلي، وأكثر رواده من الشريحة الشابة من طلبة الجامعات. التذمر من الأسعار المرتفعة لخدمات الموبايل مقابل محدودية وسوء هذه الخدمات عبر الشركتين الوحيدتين اللتين تتحكمان بهذا القطاع، هو أمر يكاد يجمع عليه السوريون جميعا، ومع ذلك، فإن كثيرا ممن التزموا بالمقاطعة عبروا عن عدم توقعهم تحقيق نجاح على أرض الواقع عبر دفع الشركتين المذكورتين مع مؤسسة الاتصالات إلى تخفيض فعلي للأسعار. لكن ما بدا أكثر تحفيزا لهم، هو فكرة المقاطعة بحد ذاتها، التعبير عن الرفض والاحتجاج، التدرب على المقاومة السلمية، أن نقول نحن هنا، وفقا لما استخدم من تعبيرات في التعليق على الحدث في مواقع إلكترونية عدة. في اليوم التالي، استيقظت «الرحيبة» إحدى مناطق ريف دمشق على مشاهد مروعة، تظللها الغازات المسيلة للدموع وصوت الرصاص ودخان الحرائق، في اشتباك بين الأهالي والسلطات احتجاجا على محاولة هدم عشرات المنازل المخالفة. الحصيلة حتى الآن أربعة قتلى والعديد من الجرحى بعضهم في حالة حرجة وفقا لبعض المواقع الإلكترونية المحلية، وخسائر مادية لم يجر تقديرها بعد. وهي ليست المرة الأولى التي تحصل فيها اشتباكات مماثلة بين سكان العشوائيات التي تركت لتنمو كالفطر ثم تقرر فجأة «تنظيفها» من حجارتها وسكانها على السواء بتعويضات غير عادلة أو بغير تعويضات حتى. وليست المرة الأولى التي تؤدي إلى وقوع ضحايا من قتلى وجرحى، وتنتهي بفوز فريق المحافظة والبلدية وشرطة مكافحة الشغب. وهو ما يعني أن السلطات المسؤولة، على علم باحتمالية بل ترجيح وقوع مثل هذه المقاومة من الأهالي، ومع ذلك، فهي لا تفعل شيئا سوى تكرار الحدث مرة تلو أخرى، ربما، طالما أنها واثقة من أن المحصلة النهائية ستكون في مصلحتها. بالنظر إلى اليوم السابق، يعلو الأمل بأن المجتمع لايزال قادرا على ابتداع وسائله الخاصة في ممارسة المقاومة السلمية، أو محاكاة أساليب اتبعت في مجتمعات ذات ظروف مشابهة، فخلافا للموقف من المقاومات التي تتعلق بالتحرر من الاحتلال، والذي غالبا ما يكون مؤيدا للأساليب العنفية ومستخفا بالسلمية منها، يبدو أن الموقف تجاه المقاومة السلمية ذات الطابع المطلبي أو الاحتجاجي المحلي، مقبول على نطاق واسع، ومتعطش لجديد الأساليب والآليات، في الوقت الذي لايزال فيه إلى حد بعيد حبيس المقاومة العرائضية، نسبة إلى العرائض، بسبب من قلة التجربة والمثابرة من جهة، وجدار الخوف المحصن بمختلف وسائل التضييق على الحريات من جهة أخرى. فخلال الشهر الماضي فقط، تقدمت منظمات نسوية وحقوقية بعرائض إلى السلطات الرسمية احتجاجا على مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية، وتقدم العشرات من أهالي دمشق القديمة بعرائض للاحتجاج على تحويل منزل مجاور للجامع الأموي الكبير إلى فندق، وتقدم المحامون عن المعتقلين السياسيين في سجن عدرا برسالة احتجاج على ظروف اعتقال هؤلاء بالإضافة إلى العريضة الخاصة بحملة مقاطعة الموبايل... وتعداد العرائض المماثلة المقدمة خلال السنوات القليلة الماضية، يحتاج إلى صفحات طويلة جدا. وفيما عدا حالات استثنائية، لم تؤد أي من الاحتجاجات السابقة إلى نتائج تذكر، وكانت الحصيلة نفسها غالبا، فوز الجهات الرسمية بلا منازع. وليس من المدهش بعد، أن نرى العنف يندلع بين حين وآخر على الشكل الذي وصفناه أعلاه. يدرك أهالي العشوائيات وسواهم ممن خاضوا تجربة مماثلة، عدم جدواه، وهو يكون عادة مجرد رد فعل آني وتنفيس عن الغضب والاحتقان أكثر منه محاولة للوقوف دون أمر واقع لا محال. عوامل الاحتقان والغضب تتفاعل في المرجل على أكثر من مستوى، وليس بالإمكان الحيلولة دون انفجارها طالما أن وسائل الاحتجاج السلمي لاتزال قاصرة ومحاصرة بحدود الحظر على حرية الرأي والتعبير والاجتماع، وطالما أنها غير قادرة على إحداث نتائج ملموسة للأسباب المذكورة آنفا، ولحقيقة أن الآذان الرسمية تتسم بأنها من طين ومن عجين طالما تعلق الأمر بصوت الرأي العام. مع التأكيد على أن هذا الانفجار الآني للعنف الذي يعالج بالكي، لا يعني الشفاء على الإطلاق خلافا لما يعتقدون!* كاتبة سورية
مقالات
في عدم جدوى العلاج بالكي!
05-06-2009