النور الخاطف
قد نتفق أو نختلف مع ثقافة «الزن»، لكن يجب النظر إليها من زاوية الأخذ بالمعنى المختلف في تناول كل أمور الحياة بطريقة أعمق من تناولنا لها، لذا تمنيت لو أنني اطلعت عليها قبل أن أنجب أولادي، لكنت ربيتهم بطريقة مختلفة، أقصد من ناحية النظر إلى كل تفاصيل الحياة المعاشة التي نتناولها من سطحها، بعيدا عن الهدف الأسمى والأعمق لمعناها، ومثال على ذلك سأطرح ثلاث قصص بشكل مختصر جدا، كانت من مقررات المدرسة في طفولتي:
الأولى، تحكي عن قحط أصاب منطقة يسكن فيها سلحفاة وبلشونان قررت الهجرة إلى إقليم لم يصِبْه الجفاف، فأحضرا عصى لتعضّها السلحفاة ويطيرا بها بشرط ألّا تفتح فمها، لكنها حين سمعت كلاماً لم يعجبها ردت عليه بشتيمة فسقطت وماتت في الحال، هذه هي القصة، ولنرَ ماذا كان تفسير المنهج أو المدرسة لها:1- لأنها كانت ثرثارة، 2- لأنها حمقاء، وبعد يا أبله لأنها تسمع كلام الغير.هذا كان التفسير الخارجي والسطحي للمعنى، لكن الزن يتغلغل إلى التفسير الأعمق وهو الذي لم تقُلْه الأبله ولا المنهج الدراسي، فالزن يقول:* الإطراء والازدراء أنه أشبه بلهب شمعة تصعد مستقيمة وشفافة، وتخفق لأصغر نسمة، لا يمكن لأحد أن يعتدي علينا خلقياً من دون رضانا، نحن من نفتح المحابس للغم.الثانية، قصة الأسد القوي الذي طلب من الأرنب المرح الرحيل عن أرضه هو وأسرته من دون أن يمنحه وقتاً للرحيل، فاحتال عليه الأرنب وأخذه إلى البئر الذي قال له إن فيها أسداً سخر منه ومن قوته، وحين نظر الأسد المتغطرس إلى صورته وسمع زئيره المرعب، انكسرت غطرسته وانزاح غروره فانهزم وترك المكان كله للأرنب. فماذا تفهمون يا أطفال من هذه القصة؟1- الأسد مغرور، 2- الأرنب مكّار، 3- الشطارة في الحيلة، لا يا أبله الصحيح هو في قول الزن: الإدراك الحاد لبداهة الأشياء.الثالثة، حكاية آنسة خلد، هي في عين والدها تحفة، أعجوبة، لذا قرر تزويجها من شخصية بارزة، ففكر في الشمس، لكنه وجد أن غيمة قادرة على طمسه، فقرر أن يكون غيمة، لكنه اكتشف أن الريح قادرة على تبديده، ثم اختار الريح وبعدها وجد أن الجدار الترابي يهزمه، فاختار الجدار، لكنه اكتشف أن الجدار يتصدع حين يقرضه خلد، وفي النهاية عادت لتتزوج الخلد الذي هو من فصيلتها، والمعنى يا أبله الطمع واضح وهو المعنى، وأيضا التطلع إلى فوق والشعور بعدم الرضا، هذا هو المعنى البسيط، لكن الزن ينظر إلى ما هو أبعد من ذلك: ما تطارده بكثير من الحمية والحماس، ها هو هنا، منذ وقت مضى، فيك تكمن طبيعته.* إذن، الزن يخلصنا من طرق تفكيرنا العادية وينقل إلينا خارج المعاني الكلية «التصورات» والكلمات، حقيقة تسمو مباشرة في قلب الإنسان، يعلمنا كيف نرى حقيقة الواقع من دون أحكام أولية، ومن دون تشويه لها، ومن دون أن نضفي عليها خيالاتنا، وكيف نستقبلها كما هي، ذلك هو طريق الصمت.«في ثقافتنا نرى الصمت من ذهب لو كان الكلام من فضة، وأيضا حصانك لسانك... إلخ، والسكوت أحيانا يعني أن الساكت لا يريد أن يكشف عن جهله أو ضحالة تفكيره، أو أنه لا يريد أن يلقي بجواهر تفكيره فيلتقطها حرامية الأفكار، هذا ما يعنيه الصمت في ثقافتنا، أما في الزن فالصمت يكشف ما وراء المعنى الكلي، العقل، يأخذنا إلى قلب الأشياء يقربنا، فالصمت وسيلة ممتازة لبلوغ الحقيقة الينبوع الخفي.* أياً كان ستار المظاهر، ينطلق الزن مباشرة إلى قلب الجوهر.* أجمل حكايات الزن يتبعها فن الهايكو من منشورات سلسلة إبداعات عالمية الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.