في بئري الدين والدولة
لا تكاد مشكلات الدولة تكون مرئية في منظار المثقفين والناشطين السوريين الذين يتركز اهتمامهم حول قضايا الدين. بالمقابل، لا تكاد المشكلات الدينية تكون مرئية من قبل المثقفين والناشطين الذين يكرّسون جلّ اهتمامهم للمسائل السياسية. هذا بينما الدين والدولة هما محورا الاستقطاب الأبرزان في أوساط عموم المهتمين بالشأن العام في سورية. فكأننا نتوزع على قعري بئرين مختلفين، يمتنع أن نرى البئر الآخر من موقعنا في قعر بئرنا. وبالفعل الاختلاط نادر بين سكان أي من البئرين، وحرج دوماً، والثقة بينهما معدومة. وحده الخروج من البئر، إن بنينا على هذه الاستعارة، يتيح لنا رؤية البئرين معاً، والحيز الذي يندرجان فيه. وإذا طوّرنا أدواتنا وأمكننا تحليل مياههما، فقد نتبين المنابع العميقة التي تغذيهما معا أو التي ترفع منسوب الماء في أحدهما أو الآخر. والحال لا تبدو أن هناك مَن هو مستعد للخروج من بئره لرؤية البئر الآخر والبئرين معاً. ثمة مثقفون سوريون لا تتمحور اهتماماتهم حول الدين ولا حول الدولة، لكن مَن ينشغل بمشكلات أحدهما قلّما يجد ما يقوله بمشكلات الآخر. يسعنا القول، تاليا، إن الدين والدولة، أو الموقف من هذه أو ذاك، هما عنوانا الانقسام الأعمق في أوساط النخبة السورية المستقلة.
و»الدين» المقصود هو الإسلام السُنّي أساساً، لكونه أكثرياً ويحتكر «سلطة تعريف الإسلام» (هو أكثري لأنه محتكر لهذه السلطة)، وما يرافقها من تطلع للهيمنة الثقافية والرمزية والسيطرة السياسية. و»الدولة» المقصودة هي النظام الحالي، معرفاً باحتكار السلطة العمومية وبقدر من الحريات الاجتماعية قياساً إلى النموذج الإسلامي المتصور. وليس توزع الاهتمامات على هذه الصورة أمراً تخصصياً أو مسألة معرفية حصراً. إنه صيغة تدخل في الشأن العام تتضمن تحديداً لما هي المشكلة الأساسية في أوضاعنا الراهنة، وتقديراً لجبهة الصراع الرئيسية، ورؤية للحل الفعال للمشكلة. مَن يعتقد منا أن المشكلة في الدين أو ربما هي الدين ذاته، فسيقوده هذا التحديد إلى النضال ضد «الأصولية» وتجلياتها ومنابعها المفترضة، وسيطور تصوراً للحل يتمثل في «العلمانية» و»الحداثة» وما شابه. أما مَن يعتقد أن المشكلة في الدولة فسيمضي إلى الكفاح ضد الاستبداد والدكتاتورية ونظام الاستثناء...، وستكون الديمقراطية هي العنوان العام لنشاطه السياسي والثقافي. وبقدر ما يُعنى «العلمانيون» بالاستبداد فإنهم أميل إلى اشتقاقه من الدين، بينما يتمثل الميل العام لدى الديمقراطيين في اعتباره الاستبداد والنظم السياسية المغلقة عنصراً تفسيرياً في صعود التطرف الإسلامي. في العمق، توزيع المواقف هذا توزيع سياسي، لا يفهم إلا ضمن الحقل السياسي السوري العياني في العقدين الأخيرين. العلمانية والديمقراطية موقفان سياسيان أولاً وقبل كل شيء. الإلحاح على هذه النقطة البديهية ليس مهما إلا لأن هناك من ينكرها من بين منسوبي «العلمانية»، واضعاً نفسه خارج السياسة وفوقها. في واقع الأمر، يتحدد انحيازنا لهذا الموقف أو ذاك بمواقعنا ضمن الحقل المشار إليه، بوصفه حقل مجتمع منقوص الاندماج، تعرض استقطاباته الإيديولوجية مساحة تقاطع واسعة مع تشققاته الأهلية، أو بالعكس تشكل التمايزات الأهلية قواعد طلب اجتماعي مضمونة على ما قد يتاح فيه من عروض إيديولوجية. ضمن هذا الإطار العام، يميل الموقف من الدين إلى أن يشتمل موقفاً من الدولة، والعكس بالعكس. نشعر أنه لا جديد في كل ما قلنا. بل نميل إلى ترجيح أنه موضع إدراك واسع. ما لا نجده مقبولا هو الركون إلى الاستقطاب وسط المشتغلين بالشأن العام، الصدور عنه والاندراج فيه، الأمر الذي يقلل محصولهم القليل أصلاً. لا نجد مقنعاً القول، إن حل مشكلة الدين أو الدولة يتضمن من تلقاء ذاته حلا لمشكلة الدولة أو الدين. ثمة مشكلتان مختلفتان (وليستا الوحيدتين). ونحتاج إلى التفكير فيهما معا والاشتغال عليهما معا، لكن دون التعويل على ثمار عملية قريبة. التعويل هذا مصدر لبعض أسوأ خرافاتنا السياسية. من جهة يقضي على المعرفة في مهدها. ومن جهة أخرى يُحِلُّ الرغبة والهوى ونفاد الصبر محل عمل التاريخ الهادئ والعنيد. وفي الجلبة السياسية الدائمة التي تنجم عن أولوية العمل تبحث التحزبات العمياء والصراعات الأشد وحشية والتطرفات الممزقة عن مسوغات لها. وتعثر عليها غالباً. من شأن العمل على الخروج من آبارنا والتدرب على رؤيتها ضمن إطارها العام واستكشاف ينابيع المياه التحتية التي تغذيها أن تمكننا من تحكم أفضل بها جميعا. هذا ما تخفق في تحقيقه إشكاليتا الديمقراطية والعلمانية كما نعرفهما اليوم. بل إن المثابرة على أي منهما تفضي أكثر وأكثر إلى نتائج سلبية تجمع بين العقم الفكري والفشل السياسي وتغذية التمزق الاجتماعي والثقافي. أن يظهر مثقفون سوريون، يعيشون على سطح الأرض ويتجولون فيها، مؤشر صالح على نضج فكري وإنساني و... سياسي يزداد إلحاحاً. وعلى إرادة لتجاوز الانقسام البنيوي السوري وفتح آفاق وطنية أكثر توحداً وحرية. * كاتب سوري