ثمة رجال يختارون الابتعاد عن الأضواء بعد أن لعبواً دوراً بارزاً في الحياة السياسية والاجتماعية، لكن حركتهم في الظل تبقى فاعلة ومؤثرة، وكلمتَهم محط إصغاء للقريب والبعيد، من هؤلاء الرجال الرئيس السابق للرهبانية اللبنانية المارونية الأباتي بولس نعمان الذي ارتبط اسمه بحقبة بالغة الأهمية في تاريخ لبنان المعاصر.

Ad

من مكتبه في جامعة الروح القدس- الكسليك، التي يشغل حالياً منصب نائب رئيسها، أكد الأباتي نعمان في حديث إلى "الجريدة" استمراره "في النضال من أجل أن يبقى لبنان وَطن الإنسان والحرية"، واهتمامه راهناً بجمع وإعادة نشر إصدارات مفكري لجنة البحوث اللبنانية، ومن بينها كتاب للقاضي روبير عبدو غانم نشر عام 1946 باللغة الفرنسية، بعنوان "عناصر تكوين دولة يهودية في فلسطين"، ويضع الأباتي اللمسات الأخيرة على النسخة المعربة التي ستنشر قريباً.

وأوضح نعمان أن الهدف من إعادة نشر هذه الإصدارات هو "تبيان وعي المفكرين المسيحيين في لبنان مخاطر الحركة الصهيونية، وتنبيههم العرب إلى عدم بيع أراضيهم في الأراضي الفلسطينية منذ عام 1919"، مشيرا إلى "أننا لم نكافأ من الفلسطينيين وبعض العرب على ما عملناه للقضية الفلسطينية".  وحيا الأباتي نعمان دولة الكويت حكومة وشعباً، خاصا بالتحية سمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الصباح، وتمنى على الكويت أن تساهم في نهضة الشعب العربي والدول العربية، لما لها من دور على هذا الصعيد، شاكرا الكويت لاستضافتها اللبنانيين وإتاحة فرص العمل لهم، وفي ما يلي نص الحديث:

• "الإنسان الوطن الحرية" عنوان كتاب مذكراتكم الذي صدر مؤخرا، هل تحدثنا باختصار عن واقع الإنسان والحرية في لبنان، وعن لبنان-الوطن راهنا؟

هذا الشعار رفعتُه في "كتاب المذكرات" حتى أقول إننا ناضلنا خلال "الأحداث" من أجل أهداف، دافَعنا عن الإنسان المواطن وعن القيم الإنسانية التي سَمَحَت لنا ظروف الحرية والاستقلال في لبنان ممارستها وتصديرها إلى المحيط. إن لبنان رسالة حضارية إلى المحيط، وهذه الرسالَة لا تمارس دون الاستقلال والحرية، وسنظل نناضل من أجل أن يبقى لبنان وطن الإنسان والحرية.

• وصفت قيادات مسيحية لبنانية مشاركتها في إحياء ذكرى عيد مار مارون في براد بسورية هذا العام بأنها عودة الى الجذور، هل وصفهم دقيق تاريخيا أم أن وجود الموارنة ارتبط بلبنان كونه شهد، على ما قلتم في إحدى محاضراتكم مؤخرا، تحول المارونية من مذهب فكري روحي إلى طائفة مناضلة شبه قومية مرتبطة بوطن معين؟

 نعم، هي عودة إلى الجذور إذا أُخِذَت بالمعنى الروحي والتاريخِي لا السياسي فقط. نعم، إن ظروفا سياسية تاريخِية رَبَطَت وجودَنا بلبنان، ولكن ذلك لا يُنسينا لا جذورنا ولا انتشار الموارنة في العالم كله، وأنا شخصيا، كنت من الذين كشفوا عن هذه الآثار بطلب من مطران الموارنة في حلب. من الضروري الفصل بين التاريخ والسياسة.

• تحدثتم في مذكراتكم عن تباين تاريخي بين الرهبانيات اللبنانية والبطريركية المارونية في الامور السياسية والوطنية، مرده كما تقولون إلى الدور المختلف للرهبان عن دور الأكليروس الأبرشي، هل ثمة تباين سياسي بين بكركي والرهبانية راهنا؟

مُطلَقا، ليس هناك تباين سياسي بين بكركي والرهبانيات اللبنانية، ولكن طبيعة عمل الرّهبانيَّات مع الشعب مباشرة في مصالِحِه اليومية، من مدرسة وجامعة وحياة زراعية هي التي خَلقَت هذا التبايُن في الخدمة والأدوار، وليس في الأمور الأساسية.

• لعبت الرهبانيات في لبنان وخصوصا الرهبانية اللبنانية المارونية دورا بارزا في الحياة السياسية اللبنانية، خصوصا منذ أواخر ستينيات القرن الماضي وطوال فترة الحرب اللبنانية (1975-1990). اليوم ثمة شعور بانحسار دور الرهبانية على الصعيد السياسي، ما الأسباب التي أدت الى ذلك برأيكم؟  

الظروف تغيرت والأشخاص تبدلوا، كنا في زمن مِحنة فَرَضَت علينا المساعدة المباشرة، وعندما زالَت الأسباب رَجعنا إلى عَملنا الصامت.

• برزت في الآونة الأخيرة دعوات الى إجراء تعديلات أساسية على بنية النظام اللبناني، أهمها دعوة الرئيس نبيه بري الى تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية، من موقعكم وتجربتكم كيف تقرأون تلك الدعوات؟ وهل ترون وراءها رغبة لفئة معينة من اللبنانيين في قلب التوازنات التي تحكم بنية النظام لمصلحتها؟

من الضروري زوال النظام الطائفي وإبداله بالمواطنية الكامِلَة، ولكن هذا لا يُرتَجَل ارتجالاً، بل يقتضي إعدادا وتحضيرا وظروفا ملائمة، والحال أن لبنان والبلدان المجاورة هم اليوم في حال استفاقَة العصبيات، والانقسام، لا الطائفي فَحسب بل المذهبي أيضا.

• لجنة البحوث اللبنانية، التي اصدرت من الكسليك دراسات وبرامج حددت الأطر الايديولوجية والفكرية لعمل الأحزاب والقوى المنضوية في "الجبهة اللبنانية"، كانت أول من طرح عمليا الفدرالية كحل لازمة النظام التي استفحلت مع بداية "الاحداث"، هل مازلتم ترون أن الفدرالية هي الحل الأنجع للازمات التي يعيشها لبنان؟

هي الحل الأنجح والأنجع، ليس فقط لحل الأزمات السياسية، بل للازدهار والنمو وتوزيع الثروات والعمل في مختلف أنحاء الوطن. الألمان يقولون: نحن سعداء جدا، والإنماء مزدهر، لأنه ليس عندنا باريس أو عاصمة واحدة، بل عندنا عواصم مزدهرة في كل المناطق. أكبر دول العالم وأكثرها ازدهارا هي دول فدرالية، من أميركا إلى روسيا، إلى مختلف دول أوروبا كلها فدرالية.

• حسم اتفاق الطائف مسألة هوية لبنان بقوله إنه عربي الهوية والانتماء، وكانت تلك المسألة مدار جدل وسجال منذ نشأة لبنان الكبير عام 1920، اليوم هل ترون هذا البند من الطائف موافقا للحقائق التاريخية؟

لبنان هو لبنان، نأمل أن يتحول إلى وطن الإنسان، لكل إنسان، العربي وغير العربي، والعصر لم يَعد عصر عنصُريات: الرئيس الأميركي باراك اوباما إفريقي والده مُسلم أصبح رئيسا للولايات المتحدة الاميركية، الرئيس نيكولا ساركوزي من أوروبا الشرقية يَحكم اليوم فرنسا المتشددة فرنسياً.

• ماذا يعني لكم رفع رئيس الوزراء سعد الحريري شعار "لبنان أولاً"؟

إن رئيس وزراء لبنان رجل مثقف، وطني ومخلص لبلده، نأمل للبنان على يده كل الخير والازدهار. ولبنان لن يكون إلا أولا في كل المجالات.

• عرف عنكم انكم كثيرا ما عارضتم أي وجود مسلح خارج إطار الشرعية اللبنانية، اليوم هل تعتبرون سلاح "حزب الله" سلاحا خارجا على الدولة؟ وهل تعتبرون أنه يشكل خطرا على لبنان؟

ألْهَمَ الله الإخوة في حزب الله كل خير، لأن عندهم من الوطنية والفكر ما يجعلهم يدركون ما هو الصراط المستقيم لخير لبنان المستقل.

• ألا ترون أن ورقة التفاهم التي وقعها "التيار الوطني الحر" مع "حزب الله" حمت المسيحيين في احداث مايو 2008؟

كل الأوراق وكل التفاهمات مفيدة، ولكن ماذا فعل المسيحيون في أحداث مايو المشؤومة وقبلها حتى تحميهم ورقَة التفاهم، وهل نحن في حاجة إلى أوراق تحمينا وتردعنا حتى لا يعتدي أحدنا على الآخر؟

• دعمتم بكثير من الجهد مسيرة مؤسس "القوات اللبنانية" الرئيس الراحل بشير الجميل. اليوم هل ترون أن "القوات" تعمل وفق المبادئ التي أسست عليها؟

أنا الآن بعيد عن السياسة، ولكن الحق يقال إن د. سمير جعجع أظهر، عندما سلَّم السلاح، وأقر بأن الدولَة وحدها تحمي المواطن، أنه من أكثر المسؤولين وعيا، كما قال عنه الصحافي المصري عماد الدين أديب في تقييمه الرائع لتصرف "القوات" الأخير.

• تحدثتم في مذكراتكم عن علاقة "الجبهة اللبنانية" والتيار الفكري والسياسي الذي كنتم أبرز وجوهه منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي بسورية، وعن حذركم من هذه العلاقة حتى في الاوقات التي كانت فيه على شيء من "التوافق". اليوم كيف تنظرون الى تلك العلاقة؟ وهل اتجهت نحو مسار صحيح بعد خروج الجيش السوري من لبنان؟

ليس لي أن أقيم سياسة الشقيقة سورية في لبنان اليوم، ولكن أسمح لنفسي أن أقول لفخامة الرئيس بشار الأسد والمسؤولين السوريين إنهم سيجدون في اللبناني العادي أخلَص وأوفى الأصدقاء إذا قام تعاون صادق بين الدولتين.

• تعلمون أن كثيرين ممن لا يشاركونكم النظرة الى لبنان يتهمونكم بالتعصب لمبادئكم وافكاركم، ما ردكم عليهم؟

لَو بدلتم كلمة "التعصب" بـ"التمسك بالمبادئ" لكنتم وفقتم أكثر، كل أمنيتي أن أوفّر للمواطن اللبناني المناخ السليم حتى يتحول إلى الخلق والإبداع لأنه موهوب، وحرام علينا ألا نوفّر له الأمان والاطمئنان.

• ماذا تقول للمسيحيين في لبنان وخصوصا الموارنة منهم؟

- أقول لإخوتي المسيحيين اليوم: أنتم أقوى الأقوياء اليوم وفي كل يوم إذا عشتم بحسب إيمانكم. نحن أقوياء لا بذواتنا، بل بمن يقوّينا: المبادئ والأسس التي بُنِيَ عليها لبنان: الحرية، والديمقراطية، واحترام الإنسان، كل إنسان. من آمن بهذه القِيَم وعَمِلَ بموجَبِها لا يخاف مطلَقا، بل يتحول إلى إنسان يخيف الذين لا يؤمنون بهذه القيم، إن الحرية والديمقراطية واحترام الإنسان هي قوى سريعة العدوى وسلاح فتاك لابد أن ينتصر.