تهذيب السوق كشرط للحوار الحضاري

نشر في 23-06-2009
آخر تحديث 23-06-2009 | 00:00
 د. عمار علي حسن كثير من الطروحات الاقتصادية التي عرفها العالم في العقدين اللذين أعقبا انهيار الاتحاد السوفييتي، ركزت على إطلاق الحرية لفعل الأسواق، قاصدة بهذا في الأساس، وبعيدا عن أي مخاتلة أو خداع مرتبطة بفضائل التحرر الاقتصادي الكامل، فتح الأبواب على مصاريعها أمام الشركات العملاقة المتعدية للجنسيات. وانطلقت هذه الفكرة من أن السوق يستطيع بمفرده، أو من تلقاء نفسه، أن يحقق التوازن الاقتصادي والنمو.

وتم فرض هذا المسار على العالم الثالث، ومنه العالم العربي والإسلامي، فراحت المنظمات المانحة والراعية تضع «أجندات» وتطالب دولنا بأن تلتزم بها، ولا تحيد عنها، باعبتارها «الوصفة العلاجية» الوحيدة القادرة على تحقيق النمو والتنمية. وتم فرض هذا المسار، من دون مراعاة ظروف ومصالح الدول الفقيرة، بل إن بعضها تم استخدامه كفأر تجارب للوقوف على مدى نجاعة رؤية اقتصادية غربية ما من عدمه. ولم تعط الدول المتقدمة صناعيا فرصة للدول النامية والمتخلفة في هذا المضمار، أن تدير معها حوارا حول «الأصلح اقتصاديا» أو المناسب لها.

وظل هذا الوضع قائما حين نكب العالم بأزمة مالية طاحنة، يعانيها الجميع، وهي في بنيتها أزمة في النظام الرأسمالي الاحتكاري في تطوره وفي التزامه بأيديولوجيته الليبرالية الاقصادية الجديدة، وبالتالي تفتح الباب أمام سؤال محوري وجوهري وعريض حول مصير هذا النظام، وتعيد طرح المقولات والرؤى التي انتقدت الرأسمالية المفتوحة بلا نهاية وبلا ضوابط، ومنها ما ذكره كارل بولانتي أستاذ التاريخ الاقتصادي الإنكليزي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، من أن هناك كارثة تكمن في المسعى اليوتوبي لليبرالية الاقتصادية لإقامة نظام سوقي قادر على تنظيم نفسه بنفسه. وهو ما حذر منه آدم سميث نفسه حين ربط بين الملكيات الكبيرة وعدم المساواة، وأكد أن الوفرة لدى الغني تفترض فقر الكثيرين، وهو قول شبيه بما هو منسوب إلى علي بن أبي طالب من أنه «ما متع غني إلا بما أفقر به فقير»، لكن الغرب لم يكن معنيا بسماع أي أصوات من خارجه حول الطرق الاقتصادية الأفضل لتحقيق سعادة القطاعات الأعرض من البشر. إن المطلوب في مواجهة الأزمة هو تأطير عمل الأسواق بواسطة تقنين اجتماعي تتجلى فيه مصالح الطبقات الشعبية، أي تحديد شروط توافق اجتماعي جديد خاص بالمرحلة، وقائم على تطوير ميزان القوى لمصلحة الشعوب، عبر تحقيق أهداف مرحلية مثل التوظيف الشامل للأيدي العاملة، وتعديل توزيع الدخل القومي، وإنعاش حركة التنمية، وكلها مسائل مرتبطة بإنعاش دور الدولة الوطنية، بوصفها الإطار المناسب، لبلورة وتنفيذ هذه المشروعات، حسب ما يقول المفكر الاقتصادي الكبير الدكتور سمير أمين. وهذا المطلوب لا بد أن يشمله أي حوار قائم بين الشمال والجنوب في الفترة المقبلة، وإلا ظل العالم يعاني ويلات الأزمة المالية الراهنة.

وفي كل الأحوال فإن الأسواق هي مجال مفتوح لحوار حضاري، لا يسلط الضوء عليه كثيرا، إذ إنها المكان الذي يتعرف فيه البشر بعضهم على بعض في اختيار صامت، وإرادة لا تشكيك في وجودها. فالسلع التي تتدفق عبر الحدود، وتتناقلها الأيدي، ويقبل الناس على شرائها طائعين، هي واحدة من أدوات الحوار الضروري. وهذه الوسيلة تحمل في مضمونها وشكلها شيئين مهمين: الأول هو التعبير عما وصلت إليه دولة ما من تقدم تقني، والثاني هو تحديد مدى احتياج العالم لما تنتجه هذه الدولة، ومن ثم ترسيخ الاعتقاد في أهمية دورها، وبالتتابع إيمان الكل بأهمية الكل في حياته الاقتصادية.

وفي ظل سوق عادل، يمكن أن تقبل كل دولة على إنتاج السلعة التي تتمتع فيها بميزة نسبية، ويصبح الباب أمام تبادل السلع والخدمات مفتوحا، وهذا من شأنه أن يعزز الحوار بين الجميع. فالخلافات الاقتصادية، وإحساس الجنوب بأن الشمال يريد أن يبتلعه، تارة باستعماره ونهب ثرواته ومنها المواد الخام، وتارة بتحويله إلى تابع اقتصادي، بعد رحيل الاستعمار التقليدي، وتارة ثالثة باحتكار أسواق سلع بعينها، وحرمان الآخرين من فرص المنافسة في إنتاجها، في ظل عولمة رهيبة.

لقد جارت العولمة على الديمقراطية، رغم الادعاءات التي ربطت الاثنين، وحاولت أن تصور هذا الارتباط باعتباره لازمة أو متلازمة لا تنفصم عراها. كما جارت العولمة على الرفاه الاجتماعي للجميع، حين غذت المعادلة التي تقوم على مجتمع الخمس الثري وأربعة الأخماس الفقراء. وخطاب العولمة لا يعدو كونه هبة لليمين السياسي في البلدان الصناعة المتقدمة، لأنه يمد له حبل النجاة بعد الفشل الذريع، الذي منيت به تجارب سياسته النقدية والفردية الراديكالية خلال عقد الثمانينيات من القرن المنصرم. لكن العولمة لم تلبث أن وقعت في أزمة جديدة وطاحنة بدأت في المراكز الرأسمالية الأساسية، وامتدت منها إلى سائر العالم، وحتى لو تعافى العالم من هذه الوعكة الكبيرة، فإن الإصرار على نهج العولمة سيفتح الباب على مصراعيه أمام أزمات لاحقة، قد لا تنتهي.

إن النظام الدولي الحالي يتسم بأنه يعمل على تغليب المصالح التي تعمل على صعيد عالمي على المصالح الأخرى التي تنشط تقليديا في الإطار الوطني بالأساس، الأمر الذي يمثل بدوره عائقا إضافيا في سبيل عمل الوفاق الاجتماعي الوطني. وهنا لا يجب أن يبقى التخيير قائما بين احتمالين لا ثالث لهما، فإما الاندماج في المنظومة العالمية وإما الخروج منها، بل يجب البحث عن بديل حقيقي، يرمي إلى تقييد العولمة بدلا من إطلاق يدها، تبطش بالصغار. وهذا الوضع يتطلب وجود برنامج عالمي متنوع ذي نزعة إصلاحية، يعمل على عدة محاورة، أولها هو تنظيم أسواق الأموال بغية توجيه الاستثمارات نحو الأنشطة المنتجة القادرة على إنعاش حركة الاقتصاد في الشمال والجنوب معا، لتحل محل استثمارات المضاربة المالية المتبعة حاليا، والتي شكلت أحد أسباب الأزمة المالية. وثانيها يعمل على إعادة صياغة نظام نقدي يضمن حدا من الاستقرار بدلا من المضاربة القائمة على ممارسات تقييم العملات في أسواق حرة. وثالثها يرمي إلى تقنين المنافسة في الأسواق الدولية، لتحل محل المبادئ التي أنشئت على أساسها منظمة التجارة الدولية. والرابع يعكف على إنجاز تقدم ملحوظ حيال «الأقلمة» عبر تكوين كتل إقليمية واسعة لمواجهة الاحتكارات، أما الإجراء الخامس فهو إضفاء الطابع الديمقراطي على الحياة السياسية العالمية، عبر إصلاح مؤسسات وهياكل الأمم المتحدة.

وهذه الأوضاع الاقتصادية خلقت حواجز عالية بين «الشمال» و«الجنوب» ألقت بظلالها على مجالات التعاون والحوار الأخرى. فالإفريقي الذي يتضور جوعا، لا يمكنه أن يغفر للرجل الأبيض قيامه بسكب الألبان وإلقاء آلاف الأطنان من القمح في المحيط الأطلسى، بغية الحفاظ على أسعاره مرتفعة. وإذا جلس الطرفان إلى طاولة للتحاور حول أي قضية، حتى لو كانت ثقافية بحتة، فإن مثل هذا التصرف سيزحف، من دون شك، إلى عقول المتحاورين الأفارقة وألسنتهم، وسيقدمون على ذكره، وحتى لو احتفظوا بالضغائن في قلوبهم، فإنهم سيظلون طوال الوقت غير مقتنعين بجدية الرجل الأبيض أو الأصفر في التحاور معهم.

* كاتب وباحث مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top