مع بداية دور الانعقاد الجديد لمجلس الأمة، انكشف المشهد السياسي العام وبتفاصيل مهمة من خلال مداخلات السادة الأعضاء على الخطاب الأميري وبرنامج عمل الحكومة، ولعل من أبرز ملامح هذا المشهد السياسي حالة الاستقطاب الحاد التي تعكس قطعاً أحد وجوه تغذية الاصطفاف الشعبي بين الحضر والقبائل.

Ad

فمجلس الأمة بات منقسماً على نفسه، شئنا أم أبينا، بين كتلتين رئيستين تمثلان نواب المناطق الداخلية في مقابل نواب القبائل من المناطق الخارجية، مع وجود حالات استثنائية قليلة جداً من النواب المتسربين هنا أو هناك أو ممن يسعون جاهدين إلى المحافظة على حياديتهم، وإن مالوا إلى إحدى الجبهتين تبعاً للقضايا المطروحة داخل المجلس؛ سواء كانت متعلقة بالقوانين أو ما يخص الملفات الساخنة المؤدية إلى طريق الاستجواب.

ومن ملامح هذا المشهد السياسي أيضاً أن نواب القبائل باتوا يفرضون أنفسهم كقوة واقعية للمعارضة السياسية لا يمكن الاستهانة بها، مقابل جنوح معظم نواب الحضر نحو العباءة الحكومية والدفاع عنها، وإن تطلب ذلك مواجهة زملائهم من داخل قبة البرلمان وخارجه، في مفارقة كبيرة بين ما شهدته التجربة الديمقراطية على مدى سبعة فصول تشريعية متتالية منذ عام 1963.

وإذا استثنينا مجلس 1992 الذي يعتبر نقطة تحول مهمة في التاريخ السياسي، حيث المعارضة السياسية الوطنية التي ضمت مختلف التيارات الليبرالية منها والدينية والمستقلة من الحضر والبدو والسنة والشيعة على حد سواء، فإن تلك الحقبة كانت متأثرة إلى حد كبير بنتائج الغزو العراقي الذي عزز الروح الوطنية من جانب، والتعطش لعودة الحياة الدستورية من جانب آخر، ولكنها سرعان ما تلاشت لتبدأ البوصلة السياسية بالتغير بشكل كلي.

فقد كان نواب الحضر في الغالب هم صف المعارضة الأول منذ الفصل التشريعي حتى نهاية عقد الثمانينيات، وكان الدور الرقابي من أهم وأقوى الأدوات الدستورية التي يتم تفعيلها ولم يتنازلوا عنها رغم حل مجلس الأمة مرتين وبشكل غير دستوري، وتعليق الحياة الديمقراطية، حيث شهد مجلس 1985 ستة استجوابات، من بينها استجوابان لوزراء من أسرة الحكم، في حين كانت أغلبية نواب القبائل من المدافعين عن الحكومة في ذلك الوقت.

ولكن مع منتصف التسعينيات بدأت جبهة المعارضة تتحول باتجاه المناطق الخارجية، وأخذت المناطق الداخلية تميل أكثر نحو الحكومة، والغريب في الأمر أن القضايا التي تبنتها المعارضة الحضرية في عصرها الذهبي هي ذاتها التي تحمل المعارضة القبلية الجديدة لواءها، وتتمثل ببساطة في أوجه الفساد الإداري والمالي، وهموم المواطنين، وتدني مستوى الخدمات العامة وتفشي الواسطة، وخرق القوانين، وغياب الرؤية الحكومية في معالجة أمهات المشاكل المزمنة، والتحديات التي تواجه الدولة.

ومن صور المشهد السياسي، الذي أعلن رسمياً في أول جلسة عمل لمجلس الأمة، استمرار التصعيد السياسي من خلال اللجوء إلى مساءلة الحكومة مبكراً بما في ذلك استجواب رئيس مجلس الوزراء، الأمر الذي من شأنه إعادة فتح السيناريوهات المحتملة على مصراعيها من جديد، أو لجوء الحكومة إلى خيار المواجهة الشاملة بما في ذلك القبول بسابقة مساءلة سمو رئيس مجلس الوزراء.

وخيار المواجهة بالتأكيد ستتحمل الجبهة البرلمانية الموالية للحكومة اليوم، ومعارضة الأمس، جزءاً كبيراً من مسؤوليته، في اختبار تاريخي ومفصلي خطير... وبغض النظر عن دوافع مثل هذه الاستجوابات المحتملة ونوايا مقدميها، فهل تملك الموالاة الحكومية أدوات الدفاع عنها، خصوصاً إذا كانت الملفات الساخنة تتضمن وثائق دامغة وأدلة قاطعة على تجاوزات في الأموال العامة، وخروقات بينة للقانون وانتهاكات صارخة للدستور؟!

ولهذا، فإن لجوء النواب الحكوميين إلى خيار إعطاء الفرصة للحكومة كان محاولة للهروب إلى الأمام استعداداً لاحتمالية المواجهة المبكرة، وقد يكون ذلك تبريراً منطقياً ومستحقاً باعتبار أن الوزارة الجديدة قد لا تتحمل وزر أخطاء وممارسات الحكومات التي سبقتها من الناحية الدستورية، ولها الحق في طرح برنامجها وآلية عملها وخلق الانسجام والتضامن بين وزرائها، مع كامل حق منتقدي الحكومة في إثارة أخطائها وتجاوزاتها والوفاء بوعودهم الانتخابية التي انتخبوا على أساسها، وفي إطار الدستور.

ولكن يبقى الأهم من ذلك كله عدم وقوع الجبهة الحكومية في محظور التمادي في هذا التبرير، ومحاولة التستر على الأخطاء القاتلة والدفاع عن مرتكبيها، خصوصاً تلك المتعلقة بالمال العام، فقضايا الساعة من قبيل اللوحات الإعلانية ونتائج استجواب وزير الداخلية، وتقارير ديوان المحاسبة بشأن صفقات السلاح وتجاوزات الخطوط الجوية الكويتية، وخسائر الهيئة العامة للاستثمار، وفشل المشاريع الحيوية الكبيرة مثل مستشفى جابر، والاستاد الأولمبي، ومحطة مشرف، والمدينة الجامعية، لا يمكن بحال من الأحول تقييدها ضد مجهول والقفز عليها دونما حساب أو عقاب فقط... وفقط بغضاً في المعارضة الجدية أياً كانت هويتها وانتماؤها الاجتماعي والطبقي والسياسي!

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة