حديقة الانسان الواشي
أدخل أورويل إلى قاموس الكتابة الصحافية والأدبية تعبيرات لم تكن موجودة قبله، وأصبحت حاجة ضرورية في ما بعد، من قبيل «الأخ الأكبر» كناية عن السلطة المستبدة، و{الرطانة الجديدة» تعبيراً عن لغو الأحزاب وأكاذيبها، ذلك عبر روايتيه الشهيرتين «مزرعة الحيوانات» و{1984» إذ فضح في الأولى جنوح اليسار إلى الشمولية المستبدة، وتنبأ في الثانية بوحشية الرأسمالية الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية.
السمة الظاهرة على أعمال «أورويل» هي أنه كاتب يقول كلمته ويمشي، إذ كان مؤمناً جداً بأن حرية الفكر لا يمكن أن تحبس في أي إطار إيديولوجي، ولعله لذلك كان مكروها من اليمين واليسار معاً، فالأول يعتبره اشتراكياً، والثاني لم يكن يعتبره شيوعياً!في الذكرى المئوية لمولده، قبل بضعة أعوام، احتفلت بريطانيا بإعادة طبع كتبه، على رغم أن ما بيع منها، منذ ظهورها، تجاوز عشرات الملايين من النسخ بمختلف اللغات. كذلك صدرت كتب جديدة تتناول سيرته من زوايا غير مطروقة. لكن أغرب ما ظهر في تلك المناسبة تقرير صحافي مثير كتبه تيموثي غارتون آش في ملحق «الغارديان» الأدبي... كاشفاً فيه عن وشاية أورويل لجهاز المخابرات الخارجية البريطاني، بعدد من مشاهير الكتاب والسياسيين والفنانين البريطانيين الذين كان يعتقد بأنهم شيوعيون، ذلك قبل وفاته بأشهر!تمثلت تلك الوشاية في «قائمة سرية» مقتطعة من مفكرته الشخصية، وضمت 38 اسماً، قدمها متطوعاً، وهو على فراش الموت، لصديقته الجميلة سيليا كيروان التي كانت تعمل في ذلك الجهاز.إثر ذلك ظهرت مقالات كثيرة بخصوص هذه القضية، مؤججة نار الجدل مجدداً حول شخصية أورويل وأدبه، منها ما بالغ في استهجان هذا العمل، ومنها ما حاول التماس الأعذار للكاتب.اللافت في ما أورده أورويل في قائمته السوداء عن «البريطانيين الحمر» أن وشاياته كلها كانت مختزلة جداً، وأن جميع من وشى بهم أمتد العمر بهم بعده طويلاً، بل إن بعضهم عاش أكثر من ضعفي عمر أورويل!ومثلما جرى العرف على أن «الجريمة لا تفيد» بالنسبة إلى المجرمين، يصدق القول هنا بأن «الوشاية لا تفيد» بالنسبة إلى المخبر.ألتقط هنا عشوائياً سبعة أسماء فقط من قائمة الوشاية، واستعرض تعريفاً بها وبأعمارها وبنوع الوشاية المتعلقة بها أمام كل منها:شارلي شابلن: أشهر ممثل كوميدي في العالم (1889 - 1977) - الوشاية: «؟». نعم، هذا كل ما وضعه أورويل أمام اسم شابلن، وهي علامة تحتمل أكثر من تفسير، فإما أنه يجهل توجهه بالضبط، أو أنه يعتبره مثيراً للتساؤل والريبة، «يا لها من وشاية رشيقة»!مايكل ريدغريف: ممثل مقرب من الحزب الشيوعي، ووالد الممثلة والناشطة سياسياً فانيسيا ريدغريف (1908 - 1985) - الوشاية: (؟؟). هنا نجد أن علامة الاستفهام المفردة حول شابلن قد وجدت توأمها بالنسبة إلى ريدغريف... لكن صفة الرشاقة لم تبرح هذه الوشاية أيضاً! ألارك جيكوب: صحافي وروائي (1909 - 1995) - الوشاية: «.....». نعم... مجرد نقط سابحة في الفراغ أمام اسمه، ويبدو أن أورويل أراد من المخابرات الخارجية أن تملأ هذا الفراغ بما تشاء من الظنون!بروفيسور إي - اتش. كار: مؤرخ واستاذ جامعي مرموق من كامبردج (1892-1982) الوشاية: «متملّق فقط». ما ألطفها من وشاية تصرخ بالدعوة الى معاملة المتهم بالرأفة!جون بيفن: مدير «الغارديان» و{ديلي هيرالد»... (1910 - 1994) - الوشاية: «مؤيد عاطفي فحسب، ليس مؤيداً للحزب الشيوعي على أساس عقائدي، ربّما قد غيّر رأيه.هيو ماكديارميد: شاعر سكوتلندي قومي (1892-1978) - الوشاية: «شيوعي مشاكس، لكن من المؤكد أنه مؤيد لروسيا».نعومي ميتشيسون: روائية وكاتبة سير وداعية لحقوق المرأة (1897-1999) - الوشاية: «متعاطفة حمقاء».لكنّ حمق المتعاطفة لم يمنع من أن يمتد عمرها الى أكثر من مئة عام وعام... والأنكى من ذلك ان هذا الرقم «101» له دلالته الطريفة في رواية أورويل «1984»، فهو رقم غرفة التعذيب في «وزارة الحب» وهو أسم وزراة الداخلية الملطّف في نظام «الأخ الأكبر» الاستبدادي!يبقى السؤال... هل كان حبّ أورويل لسيليا كيروان ما دفعه قبل موته بأشهر عدة الى تزويد الحكومة بقائمته الخاصة حول المتعاطفين مع الشيوعية، أم أن خوفه من تحول اليسار البريطاني نحو الاستبداد على طريقة «ستالين هو الدافع الأساسي لذلك؟».يقول الذين يلتمسون له الأعذار أنه لم يكن لينتفع شخصياً من تلك الوشاية في مثل وضعه الصحّي وهو مشرف على الموت بالسّل عام 1950، كذلك لم يكن لينتفع منها عاطفياً لأن سيليا كانت قد رفضت طلب الزواج منا بلباقة ولطف، منذ وقت طويل.أيّا كانت أسبابه فإن الوشاية هي الوشاية، وأن ينهي كاتب عظيم مثل أورويل حياته بها، وهو الذي أوقف عمره على تدمير فكره «الأخ الأكبر» أو السلطة المستبدة سواء أكانت يسارية أو يمينية، فإن مثل هذا العمل يعدّ نقطة سوداء، هي على ضآلتها أوسع مساحة، لدى القارئ البريطاني على الأقل، من كلّ الحبر الذي أراقه الكاتب على صفحات كتبه. ذلك كله جرى لأورويل في إعلام بريطانيا خلال تكريمه في الذكرى المئوية لميلاده. أمّا عندنا فلا يجري ذكر كتّابنا على النسق نفسه، فنحن إمّا أن نحرق جثامينهم ألف مرة، في حياتهم وبعد موتهم، وأما أن يكون تكريمنا لهم مقروناً بملء أي ثقب أسود مهما صغر في جدران سيرهم. ترى... لو جرى الكشف عن مثل هذا عندنا فكم من صحافي أو كاتب أو فنان سيصمد أمام الضوء الكاشف؟ أحسب أن الوشايات ستكون مجرد مساحيق تجميل على وجوه البعض، لأن كثيرين منهم قد تجاوزوا بمئات أو آلاف الأمتار حاجز هذه النكتة المسماة «وشاية» ودخلوا عميقاً في لجة المشاركة فعلياً في قتل الآخرين.الذين يرتاعون من نصل السكين أو دوي الرصاصة أو أنشوطة المشقنة هم عائشون قطعاً في نعمة الجهل... لأنهم لم يعرفوا أبداً حقارة القتل بشفرة القلم وقسوته!