في الرسم، لا ميل لي نحو المشهد الطبيعي. فالشخص الإنساني مازال ينطوي على إمكانيات تعبيرية عالية. ولا يُغني المشهد الطبيعي عن هذه الإمكانيات في كل أمزجة الطبيعة القُلّب، من هدوء وسلام، إلى اضطراب وعصف. ولكن هذا لا يعني أن ذائقتي قد هجرت المشهد الطبيعي في الرسم، كارهةً مُستنكرة. كما أنها لم تزهد به في الحقل الموسيقي. فما زالت «فصول» فيفالدي الأربعة، و»الفصول» لهايدن، وربيع «السادسة» العاصف لبيتهوفن، ومائيات ديبوسيه، وطيور ميسيان، تعبث بي على هواها. ولذا وجدت هذا الصباح الممطر مناسباً لزيارة المعرض النافع الذي أعده الغاليري الوطني، مُنتخباً من خزينه التاريخي الهائل، حول المشهد الطبيعي «من كوروت حتى مونيه».
كان معظم جمهور المعرض من المُسنين، نساءً ورجالاً. أبناء المرحلة التي تجد في الطبيعة خير سلوان، لا لأنها آسرة وجميلة في ذاتها، ولا لأن الاستسلام لها يُشعر الروح والجسد بالطمأنينة فقط، بل لأنها مآل الإنسان في آخر مطافه. وهم في شيخوختهم أقرب إلى هذا المآل. ولذا تبدو جدران بيتهم أليق بها.المعرض نافعٌ لأنه يُلقي الإضاءة الكافية على المرحلة الحاسمة، وهي مرحلة متأخرة نسبياً، التي اجتهد الفنانُ فيها في أن يهجر مرسمه حيناً إلى الهواء الطلق، ليصف الطبيعة وجهاً لوجه، دون الاعتماد الكلي على المخيلة والبراعة الفنية الخالصة التي كان ينجزها داخل جدران الاستوديو.بالرغم من أن هذا العرض يوحي بأن ثورة هجران الاستديو، وبدء رسم المشهد الطبيعي، إنما تمت وتطورت في فرنسا (وهذا ما يوحي به عنوان المعرض على كل حال)، فإنه يكشف في مطلعه عن أن المبادرة كانت قد بدأت في روما، قِبلة فناني أوروبا آنذاك. ولعل كوروت الفرنسي (1796-1875) كان هناك، حين رسم أول مبادراته. على أن مؤرخي الفن يُرجعون الشرارة إلى كتاب أصدره الرسام الفرنسي فالينسينيه في عام 1800، بعنوان «عناصر المنظور العملي»، وهو عبارة عن معالجة تنتهي بدعوة للفنانين في أن يهجروا الاستديو، ويرسموا في الهواء الطلق موضاعاتهم مباشرة. هذه الدعوة للفن الفرنسي كانت سريعة ودائمة التأثير. وكان أحرى بالمعرض أن يأخذ عنوان «من فالينسينيه إلى مونيه». لأن كوروت كان طفلاً في الثالثة من العمر حين صدر هذا الكتاب. «ولكنه لجأ إلى الاسم الذي يُغري جمهوراً أوسع!»، يقول أحد النقاد: بعد كوروت بسبعة عقود من الزمن، وفي عام 1873، عرض مونيه لوحته «شروق الشمس، انطباع»، فاتسعت الكلمة لتشمل حركة فنية بالغة التأثير في تاريخ الفن، أعني «الانطباعية»، التي تعود جذورها إلى كتاب فالينسينيه ولوحته «زريبة الأبقار»، التي احتلت خطوة المعرض الأولى في السلم التطوري.بين العملين تواصل اللوحات، وقد تميزت معظمها بالحجم الصغير، حكايةَ «المشهد الطبيعي»، وكيف ترامت أبعد من روما وفرنسا، لتشمل إنكلترا وبلجيكا وألمانيا، ولتشكل القاعدة لهذا الضرب من الرؤية الفنية الجديدة، والتي أصبحت أكثر من مألوفة اليوم. بالرغم من أن موجة «فن الفيديو» و»الفن المفاهيمي» قد ضيقتا الخناق على هذا النشاط الفني، أسوةً بتضييق خناقهما على اللوحة التشكيلية ذات الإطار جملةً.أجمل ما في العرض أربعة أعمال لكوروت، تهدف إلى دراسة الطبيعة عبر مراحل اليوم الأربع: الصباح، الظهيرة، العصر، والليل. وبذا تشكل اللوحات الأربع لوحة واحدة، رسمها في أسبوع، حتى منحتها السرعةُ حيويةً مؤثرة. تتقاسم في تأثيرها مع لوحات لمونيه، الذي بدا أكثر جرأة، وسرعة في ضربات الفرشاة.المعرض درسٌ ممتع ونافع حول فن «المشهد أو المنظر الطبيعي». والأكثر متعة ومنفعة أنه مجاني، يدخله الناس دون عبء مالي. والسبب أن معظم اللوحات منتخبة من معروضات «متحف الغاليري الوطني».
توابل
«المشهد الطبيعي»: سيرة حياة
23-07-2009