ثمة مقولتان أساسيتان رائجتان عن سورية: إحداهما تتعلق بأن نظامها مأزوم وفي عزلة داخلية وخارجية، وثانيتهما تختص بأنها لم تطلق رصاصة واحدة باتجاه عدوتها إسرائيل منذ انتهاء حرب أكتوبر/تشرين أول 1973، والواقع أن المقولتين تحتاجان إلى مراجعة.

Ad

وثمة قناعة رائجة عن الموقف الغربي والإسرائيلي تجاه سورية، تتمحور حول استهدافها بسيناريو واحد هو العزل والعدوان، كونها «تخضع لنظام مغلق يعتمد لغة خشبية ولا يعطي الإشارات اللازمة لبناء سيناريوهات تعاونية»، والواقع أن تلك القناعة أيضاً تحتاج إلى مراجعة.

يعرف كل من بنى معرفة حقيقية عن الواقع السوري، سواء في الداخل أو في ما يتعلق بالسياسات الخارجية، أن نظام دمشق ليس أفضل الأنظمة التي يمكن أن يحصل عليها هذا البلد العريق في الجغرافيا والتاريخ، وأن الاستبداد، والفساد، وسوء الإدارة، وتغييب قدر كبير من الحريات المدنية، علامات أساسية في البنية السياسية لهذا البلد، لكنه يدرك، في الوقت نفسه، أن هذا النظام يحظى بقدر من التماسك معتبر، وبجانب من الالتفاف الشعبي واضح، وبقدرة على مواجهة الأزمات واجتراح الحلول ملفتة، وبإرادة وكتلة حيوية وطاقة حية عصت طويلاً على التطويع والاستخذاء. تعطي الملاسنات الحادة، التي تبادلتها سورية مع إسرائيل، على مدى الأسبوع الفائت، الانطباع بأن الدولتين العدوتين تتبادلان التسخين الكلامي وتهيئان المسرح لمنازلة تعمدها النيران والدماء؛ وهو ليس سوى انطباع متسرع وناقص؛ إذ تشي القراءة المتأنية للمساجلات الدائرة، عبر التصريحات النارية والحركة المتشنجة، أن المعروض فعلاً إنما ينطوي على خيارين: أولهما التصعيد إلى حافة الهاوية وصولاً إلى الحرب، وثانيهما تهيئة الميدان لاختراق أساسي يحمل الدولتين إلى آفاق تسوية، فشلت في التحقق على مدى عقدين كاملين.

المعروض على سورية اليوم، وسط أجواء التسخين الإقليمي والدولي الفائرة، إما العرقنة وإما التمصير؛ فسيناريو العرقنة يطرح أن يتحول هذا البلد، الذي يقود تيار «الممانعة» في العالم العربي، إلى عراق آخر، يتشظى تحت نيران الحرب، ويتفكك نظامه، ويلعق جراح هزيمة عسكرية منكرة أو يخضع لاحتلال جديد. وسيناريو التمصير يطرح أن تنهج سورية نهج حليفتها التاريخية مصر، فتحصل على تسوية لآثار هزيمتها في 1967، تؤمن لها استعادة حقوق في أراضيها في الجولان، مقابل التخلي عن أوراق الممانعة والمقاومة، وصولاً إلى تغيير المشهد الشرق أوسطي تماماً، ليصبح منطقة توفر نظم الحكم الرسمية فيها الوسائل اللازمة لإخماد الصراع، وتحجيم المشروع الإيراني، ولجم الإرهاصات التركية الجديدة.

تقف سورية شوكة مرة في حلق إسرائيل، عبر أوراقها الرابحة في لبنان وفلسطين. وهي تطلق النيران فعلاً، كما تمتلك القدرة على إطلاقها كل يوم، عبر «حزب الله» أو «حماس» أو حلفائها في العراق، وتقود تيار الممانعة في المنطقة، فتسكت أصوات التطبيع، وتخزي دعاة «الواقعية والاستسلام».

لكن هذا السلوك ظل تحت السيطرة، بشكل أو بآخر، طيلة عقود، قبل أن تقع التحولات الدراماتيكية، التي عززت تحالفها الوثيق مع إيران، وبنت توافقها الاستراتيجي مع تركيا، بشكل غيّر أوضاع المنطقة، وقادها إلى إمكانية إرساء أسس نظام إقليمي جديد، يضم الثورة والمظلومية التاريخية والقوة العسكرية الفائرة في إيران، إلى الارتكاز السياسي الدولي والقوة الناعمة والكتلة الحيوية الضخمة لتركيا، إلى سورية نفسها، بكل ما تملك، إضافة إلى بعض العراق.

أدرك الغرب، ومن قبله إسرائيل، أن سورية على أبواب تغير استراتيجي كبير، قد يبدل الأوراق ويغير الخيارات ويخلق لها المزيد من الحظوظ التي غابت عنها لعقود؛ عبر انضوائها في تحالف عريض يتشكل في مربع مناوئ ومقاوم؛ يأخذ تركيا إلى استعادة أمجادها الإمبراطورية ويصلب قوتها في الميدان الأوروبي والمحفل العالمي، ويمكن إيران من تمرير مشروعها النووي لتتحول قوى عظمى إقليمية وتحصد المكاسب وتتمتع بالأمن، ويهيئ لقطاع في العراق عودة إلى ممارسة الدور الإقليمي من باب واسع ومعتبر، ويحفظ لدمشق حقها في تسوية عادلة، تعيد لها حقوقها دون أن تهز نظامها أو تعبث بهويتها السياسية. لذلك لم يكن مستغرباً أن يبدأ باراك بالحديث إلى قواد جيشه، في الأسبوع الماضي، عن ضرورة أن تظل إسرائيل محتفظة بقوتها «لأن الآخرين لن يسعوا إلى السلام، إلا إذا أيقنوا أنهم غير قادرين على الحرب»، وأن يكمل نتنياهو مشككاً في رغبة سورية في السلام، قبل أن يختم ليبرمان محذراً الأسد بأن الحرب «ستقوده إلى خسارة السلطة هو وعائلته».

توافق لافت في الضغط على سورية، لا يهدف فقط، كما قد يظهر من الوهلة الأولى، إلى دفع البلدين إلى الحرب مباشرة، ولكنه يرمي أيضاً إلى محاولة استدعاء الرغبة السورية في الحديث عن السلام والسير في مساره، خصوصا أن الإسرائيليين يدركون جيداً عناصر قوة سورية وقدرتها الواضحة على تفادي الصدمات الجسام بمرونة فائقة.

ردت دمشق بالقوة المطلوبة عبر ناجي عطري ووليد المعلم، منددة بالسلوك الهجومي الإسرائيلي، ومحذرة بأن «الحرب الشاملة لن تستثني المدن الإسرائيلية»، لكنها أيضاً تحدثت، عبر الأسد نفسه، عن ضرورة إفساح المجال أمام السلام، وحددت الوسيط الذي تريد له اليد الطولى (تركيا)، ولم تمانع في أن يلعب آخرون (فرنسا) أدواراً مكملة.

أجواء الحرب تلوح في أفق الخليج؛ فواشنطن تنصب صواريخ وتنشر بوارج، والتحالف الإيراني-السوري-التركي يهدد خطط الحرب كما يضعف خطط الاستعاضة عنها بالحشد الصارم والتهديد والردع؛ لذلك فسورية تنال هذا العرض الآن: العرقنة أو التمصير؟

وأسوأ ما في المعروض على سورية اليوم أنه يحاصرها في خيارين، وهي دولة دأبت دوماً على تعدد البدائل، والبقاء عادة ضمن خيار سيئ يجنبها أن تنقاد إلى ما هو أسوأ.

* كاتب مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة