قبل سفري إلى بيروت، حاولت أن أتّصل بالدكتور فؤاد زكريا لأطمئن عليه وأعرف أموره وحالته الصحية، لكن رقم تلفونه لم يجمع معي رغم محاولتي أكثر من مرة، ويبدو أنه كان هناك خلل ما فيه، فقررت أن أكلّم صديقة لي في القاهرة لتسأل عنه بعد عودتي من بيروت، لكن شاء القدر أن يغادر الدنيا قبل أن أسمع صوته وعتابه لي وللجميع، لتأخُّرنا في السؤال عنه.

Ad

هذا الغالي بقي على حبه ووفائه للكويت ولأصدقائه فيها، حتى إن لم يسألوا عنه، د. فؤاد زكريا بقي صديقاً لي وناصحاً ومرشداً طوال الوقت، وظل إيمانه بي أكبر من إيماني بنفسي وطاقاتي الفنية، جاءني في أصعب مراحل عمري، تلك التي فقدت فيها زوجي في حادثة تصادم، وكنت حينها في قاع أحزاني فاقدة بوصلة الطريق وفي حاجة ماسة إلى من ينتشلني ويفتح لي كوة للأمل من جديد، وكان هو هناك... مرشداً وصديقاً ويداً حنونة قادتني بوعي إلى تجاوز عثرات الطريق، وأحقاد كل هؤلاء الذين أخافتهم كتاباتي التجريبية التي لم يعتادوا أسلوبها وشكلها الحداثي الجديد، وفتحوا جبهات لمهاجمة تجربتي الكتابية التي آمن بها د. فؤاد زكريا، رغم أنه ليس ناقداً أدبياً، لكنه تلمّس حداثة الكتابة الجديدة واستوعبها، وآمن بموهبتي وساندني بقوة حتى لا أفقد عزيمتي وإيماني بطريقتي.

وهو من دفعني إلى القبول بالمشاركة في مهرجان بغداد المسرحي بمسرحيتي «تداخلات الفرح والحزن»، التي تم اختيارها من قِبل المبدع د. عوني كرومي، وقد انتابني الخوف والتردد من بعد الحملة الشعواء التي تعرضت لها من قِبل بعض الكتّاب في الكويت، حينها حثني د. فؤاد بإصرار على المشاركة في المهرجان، وقال لي: ما الذي ستخسرينه في حال مشاركتك، لا شيء فالمكتسب أكبر، وبالفعل كان المردود رائعاً وأكبرَ ممّا تصورته، وبنى لي مكانة وثقة واسماً أكبرَ من السابق.

د. فؤاد زكريا قامة عربية شاهقة، ورغم الفارق العمري بيننا، فإنه كان يتمتع بعقلية منفتحة، وذهن متوقد بطاقة شبابية عجيبة، لا يمكن مجاراتها، وبمنطق حاذق لماح ساخر وفي غاية الذكاء والصدق والصراحة، وشجاعة محارب من طراز فريد، لا يقبل بالغلط ولا يهادن فيه مهما كانت الظروف.

كان معي عندما أكون صح، وضدي عندما أكون في الغلط، وكنت أقول له: أتمنى أن يعز الله الإسلام بعقلية د. فؤاد زكريا، وكنت أمسكه من كلامه حين يقول لي إن شاء الله، أو الحمد الله، وأقول له ها أنت تعتمد على الله لا تغالط نفسك في الكلام، فكان يضحك من كلامي ويبقى على عادته سيفاً في محاربة التخلف والجهل كما يراه من زوايا كثيرة أحيانا قد أختلف معه فيها، لكنه كان دائماً مع الحق عندما يكون حقاً، وضد كل ما هو ظلم وكل ما هو غلط.

هناك ذكريات كثيرة وزمن ذهبي لا يُنسى مع رجل أحب الكويت ووقف معها بروحه وقلبه وعقله وقلمه الباتر.

رحم الله الصديق والأب والرجل المفكر الفيلسوف، المؤمن بالخير والحق والجمال... رجل من هؤلاء الكبار العظماء الذين لن تجود الدنيا بمثلهم، ولن تأتيني الدنيا بصديق مثله، مهما امتدت ومهما طالت أو دارت أو اتّسعت.